وفي آخر آية من الآيات محل البحث إِنذار للنّبيّ (ص) بأنّ هؤلاء المنافقين لم يبادروا لأوّل مرّة إلى التخريب والتفرقة وبذر السموم، بل ينبغي أن تتذكر - يا رسول الله - أنّ هؤلاء ارتكبوا من قبل مثل هذه الأُمور وهم يتربصون الفرص الآن لينالوا مُناهم (لقد ابتغوا الفتنة من قبل).
وهذه الآية تشير إِلى ما جرى في معركة أُحد حيث رجع عبدالله بن أبي وأصحابه وانسحبوا وهم في منتصف الطريق، أو أنّها تشير إلى مؤامرات المنافقين عامّة التي كانوا يكيدونها للنّبي (ص) أو للمسلمين، ولم يغفل التاريخ أن يسجلها على صفحاته!
(وقلّبوا لك الأُمور) وخطّطوا للإِيقاع بالمسلمين، أو لمنعهم من الجهاد بين يديك، إلاّ أن كل تلك المؤامرات لم تفلح، وإِنما رَقَموا على الماء ورشقوا سهامهم على الحجر (حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون).
غير أن مشيئة العباد وإِرادتهم لا أثر لها إزاء مشيئة الله وإرادته، فقد شاء الله أن ينصرك وأن يُبلغَ رسالتك إِلى أصقاع المعمورة، ويزيل العراقيل والموانع عن منهاجك، وقد فعل.
إِلاّ أنّ ما يهمنا هنا أن نعرف أنّ مدلول الآيات آنفة الذكر لا يختص بعصر النّبي (ص) وزمانه، ففي كل جيل وكل عصر جماعة من المنافقين تحاول أن تنثر سموم التفرقة في اللحظات الحسّاسة والمصيرية، ليحبطوا روح الوحدة ويثيروا الشكوك والتردد في أفكار الناس، غير أنّ المجتمع إِذا كان واعياً فهو منتصر بأمر الله ووعده الذي وعد أولياءه، وهو - سبحانه - الذي يذر ما يرقم المنافقون ومخططاتهم سُدىً، شريطة أن يجاهد أولياؤه في سبيله مخلصين، وأن يراقبوا بحذر أعداءهم المتوغلين بينهم.
﴿لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ﴾ توهين أمرك وتخذيل أصحابك ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي يوم أحد ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ﴾ إجالة الرأي في كيدك وإبطال أمرك ﴿حَتَّى جَاء الْحَقُّ﴾ نصر الله ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ﴾ علا دينه ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ ذلك.