وفي آخر الآية - من الآيات محل البحث - يتوجه الخطاب نحو النّبي قائلا: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم).
فهي وإن كانت نعمةً بحسب الظاهر، إلاّ أنّه (إِنّما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).
وفي الواقع فإنّهم يعذبون عن طريقين بسبب هذه الأموال والأولاد، أي القوة الإِقتصادية والإِنسانية:
فالأوّل: إنّ مثل هؤلاء الابناء لا يكونون صالحين عادة، ومثل هذه الأموال لا بركة فيها، فيكونان مدعاة قلقهم وأَلَمِهِمْ في الحياة الدنيا، إِذ عليهم أن يسعوا ليل نهار من أجل أبنائهم الذين هم مدعاة أذاهم وقلقهم، وأن يجهدوا أنفسهم لحفظ أموالهم التي اكتسبوها عن طريق الإِثمّ والحرام.
والثّاني: لما كانوا بهذه الأَموال والأولاد متعلقين، ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت ولا بالدار الآخرة الواسعة ولا بنعيمها الخالد فليس من الهيّن أن يغمضوا عن هذه الأموال والذّرية، ويخرجون من هذه الدنيا - بحال مزرِيَة وفي حال الكفر.
فالمال والبنون قد يكونان موهبة وسعادة ومدعاة للرفاه والهدوء والإِطمئنان والدعة إذا كانا طاهرين طيبين و إِلاّ فهما مدعاة العذاب والشقاء والألم.
ملاحظتان
1 - يسأل بعضهم: إِنّ الآية الأُولى - من الآيات محل البحث - تقول: (انفقوا طوعاً وكرهاً لن يتقبل منكم) مع أن الآية الأُخرى تقول بصراحة: (ولا ينفقون إلاّ وهم كارهون).
ترى ألا توجد منافاة بين هذين التعبيرين؟!
لكن مع قليل من الدقة يتّضح الجواب على هذا السؤال، وهو أن بداية الآية الأُولى في صورة القضية الشرطية، أي لو أنفقتم طوعاً أو كرهاً فعلى آية حال لن تتقبل منكم.
ونعرف أن القضية الشرطية لا تدل على وجود الشرط، أي على فرض أن ينفقوا طوعاً واختياراً فإنفاقهم لا فائدة فيه، لأنّهم غير مؤمنين.
إِلاّ أنّ ذيل الآية الأُخرى بيان قضية خارجيّة، وهي أنّهم ينفقون عن إكراه دائماً.
2 - والدرس الذي نستفيده من الآيات الآنفة، هو أنّه لا ينبغي الإِنخداع بصلاة الناس وصيامهم، لأنّ المنافقين يؤدون ذلك أيضاً، كما أنّهم ينفقون بحسب الظاهر في سبيل الله.
بل ينبغي تمييز الصلاة والإِنفاق بدافع النفاق من غيرهما عن أعمال المؤمنين البنّاءة والهادفة، ويمكن معرفة ذلك بالتدقيق والإمعان في النظر، ونقرأ في الحديث: "لا تنظروا إِلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيءٌ اعتاده، ولو تركه استوحش ولكن انظروا إِلى صدق حديثه وأداء أمانته".
﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾ لأنها استدراج لهم ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بمشقة جمعها وحفظها والمصائب فيها ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ﴾ تخرج ﴿وَهُمْ كَافِرُونَ﴾.