سبب النزول
يُستفاد من أقوال بعض المفسّرين أنّ الآيتين المذكورتين مكملتان للآية السابقة، ومن الطبيعي أن يكون سبب نزولها نفس السبب السابق، إلاّ أن جمعاً آخر من المفسّرين ذكر سبباً آخر لنزول هاتين الآيتين، وهو أنّه لما نزلت الآيات التي ذمت المتخلفين عن غزوة تبوك ووبختهم قال أحد المنافقين: أقسم بالله أنّ هؤلاء أشرافنا وأعياننا، فإن كان ما يقوله محمّد حقّاً فإنّ هؤلاء أسواً حالا من الدواب، فسمعه أحد المسلمين وقال: والله إن ما يقوله لحق، وإِنّك أسوأ من الدابة.
فبلغ ذلك رسول الله (ص) فبعث إِلى ذلك المنافق فأُحضر، فسأله عن سبب قوله ذلك الكلام، فحلف أنّه لم يقل ذلك، فقال الرجل المؤمن الذي كان طرفاً في خصومة الرجل وأبلغ كلامه لرسول الله: اللّهم صدّق الصادق وكذِّب الكاذب.
فنزلت الآيتين أعلاه.
التّفسير
المنافقون والتظاهر بالحق:
إِن إِحدى علامات المنافقين وأعمالهم القبيحة والتي أشار إِليها القرآن مراراً هي إنكارهم الأعمال القبيحة والمخالفة للدين والعرف، وهم إنّما ينكرونها من أجل التغطية على واقعهم السيء وإِخفاء الصورة الحقيقية لهم، ولما كان المجتمع يعرفهم ويعرف كذبهم في هذا الإنكار فقد كانوا يلجؤون إِلى الأيمان الكاذبة من أجل مخادعة الناس وإِرضائهم.
وفي الآيات السابقة الذكر نرى أنّ القرآن المجيد يكشف الستار عن هذا العمل القبيح ليفضح هؤلاء من جهة، ويحذّر المسلمين من تصديق الإيمان الكاذبة من جهة أُخرى.
في البداية يخاطب القرآن الكريم المسلمين وينبههم إِلى أنّ هدف هؤلاء من القَسَم هو إِرضاؤكم (يحلفون بالله ليرضوكم) ، ومن الواضح إِذن أن هدف هؤلاء من هذه الأيمان لم يكن بيان الحقيقة، بل إِنّهم يسعون عن طريق المكر والخديعة إِلى أن يصوروا لكم الأشياء والواقع على غير صورته الحقيقة، ويصلون عن هذا الطريق إلى مقاصدهم، وإلاّ فلو كان هدفهم هو ارضاء المؤمنين الحقيقيين عنهم، فإنّ إِرضاء الله ورسوله أهم من إِرضاءالمؤمنين، غير أنا نرى أنّهم بأعمالهم هذه قد أسخطوا الله ورسوله، ولذا عقبت الآية فقالت: (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين).
ممّا يلفت النظر أن الجملة المذكورة لما كانت تتحدث عن الله ورسوله، فعلى القاعدة النحوية ينبغي أن يكون الضمير في "يرضوه" ضمير التثنية غير أن المستعمل هنا هو ضمير المفرد، وهذا الإِستعمال والتعبير يشير إِلى أن رضا النّبي (ص) من رضا الله.
بل أنّه لا يرتضي من الأعمال إلاّ ما يرتضيه الله سبحانه، وبعبارة أُخرى: فإنّ هذا التعبير يشير إِلى حقيقة (توحيد الأفعال) ، لأنّ النّبي الأكرم (ص) لا يملك استقلالية العمل في مقابل الله، بل إن غضبه ورضاه وكل أعماله تنتهي إِلى الله، فكل شيء من أجل الله وفي سبيله.
روي أنّ رجلا في زمن النّبي (ص) قال ضمن كلامه: من أطاع الله ورسوله فقد فاز، ومن عصاهما فقد غوى.
فلما سمع النّبي (ص) كلامه غضب - حيث أن الرجل ذكر الله ورسوله بضميرالتثنية فكأنّه جعل الله ورسوله في درجة واحدة - وقال: "بئس الخطيب أنت، هلا قلت: ومن عصى الله ورسوله" (1) ؟!
﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ﴾ أيها المؤمنون أنهم لم يقولوا ما بلغكم عنهم ﴿لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ بالطاعة وأفرد الضمير لتلازم الرضاءين أو يقدر الآخر ﴿إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ حقا.