فالتفت إلى السحرة و(قال آمنتم به قبل أن آذن لكم).(5)
لقد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالا، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب، بل كان ترقُّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، فليس لهم أن يفكّروا دون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين!.
هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول (آمنتم له)! والمراد من هذا التعبير هو التحقير!!
إلاّ أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلا، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.
فإتهم السحرة أوّلا بأنّهم تواطؤوا مع موسى(ع) وتآمروا على أهل مصر جميعاً، فقال: (إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر).
وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم; وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم...
إلاّ أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها (فلسوف تعلمون لأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاُصلبنكم أجمعين).
أي: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ العام، وعلى جذوع النخل، (لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر).
وهذه هي طريقة الجبابرة والحكّام الظلمة في كل عصر وزمان، ففي البدء يتهمون الرجال المصلحين بالتآمر ضد الناس، وبعد الإستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في رقاب ليضعف موقع المطالبين بالحق ولا يجدوا معاضداً لهم، فيزيحوهم من طريقهم.
﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ﴾ فرعون ﴿آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ في ذلك ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ رئيسكم ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ وتواطنتم على ما فعلتم ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وبال أمركم ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ﴾ من كل شق طرفا ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ليعتبر بكم.