سبب النزول
ذكرت عدّة أسباب لنزول هذه الآيات، وكلّها ترتبط بأعمال المنافقين بعد غزوة تبوك.
فمن جملتها: إِنّ جمعاً من المنافقين كانوا قد اجتمعوا في مكان خفي وقرّروا قتل النّبي (ص) عند رجوعه من غزوة تبوك، وكانت خطتهم أن ينصبوا كميناً في إِحدى عقبات الجبال الصعبة، وعندما يمر النّبي (ص) من تلك العقبة يُنفرون بعيره، فأطلع الله نبيّه على ذلك، فأمر جماعة من المسلمين بمراقبة الطريق والحذر، فلمّا وصل النّبي (ص) إِلى العقبة - وكان عمار يقود الدابة وحذيفة يسوقها - اقترب المنافقون متلثّمين لتنفيذ مؤامرتهم فأمر النّبي (ص) حذيفة أن يضرب وجوه دوابهم ويدفعهم، ففعل حذيفة ذلك.
فلمّا جاوز النّبي (ص) العقبة - وقد زال الخطر - قال لحذيفة: هل عرفتهم؟
فقال: لم أعرف أحداً منهم، فعرّفه رسول الله (ص) بهم، فقال حذيفة: ألا ترسل إِليهم من يقتلهم؟
فقال: "إِني أكره أن تقول العرب: إِنّ محمّداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه".
وقد نقل سبب النزول هذا عن الإِمام الباقر (ع) ، وجاء أيضاً في العديد من كتب التّفسير والحديث.
وذُكر سبب آخر للنزول وهو: أنّ مجموعة من المنافقين لما رأوا النّبي (ص) وقد تهيّأ للقتال واصطف أمام الأعداء، قال هؤلاء بسخرية: أيظن هذا الرجل أنّه سيفتح حصون الشام الحصينة ويسكن قصورها، إن هذا الشيء محال، فأطلع الله نبيّه على ذلك، فأمر رسول الله (ص) أن يسدوا عليهم المنافذ والطرق، ثمّ ناداهم ولامهم وأخبرهم بما قالوا، فاعتذروا بأنّهم إِنّما كانوا يمزحون وأقسموا على ذلك.
التّفسير
مؤامرة أُخرى للمنافقين:
لاحظنا في الآيات السابقة كيف أنّ المنافقين اعتبروا نقاط القوّة في سلوك النّبي (ص) نقاط ضعف، وكيف حاولوا استغلال هذه المسألة من أجل بثّ التفرقة بين المسلمين.
وفي هذه الآيات إِشارة إِلى نوع آخر من برامجهم وطرقهم.
فمن الآية الأُولى يستفاد أنّ الله سبحانه وتعالى يكشف الستار عن أسرار المنافقين أحياناً، وذلك لدفع خطرهم عن النّبي (ص) وفضحهم أمام الناس ليعرفوا حقيقتهم، ويحذروهم وليعرف المنافقون موقع اقدامهم ويكفّوا عن تآمرهم، ويشير القرآن إلى خوفهم من نزول سورة تفضحهم وتكشف خبيئة أسرارهم فقال: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم).
إِلاّ أنّ العجيب في الأمر أن هؤلاء ولشدة حقدهم وعنادهم لم يكفّوا عن استهزائهم وسخريتهم، لذلك تضيف الآية: بأنّهم مهما سخروا من أعمال النّبي (ص) فإن الله لهم بالمرصاد وسوف يظهر خبيث أسرارهم ويكشف عن دنيء نيّاتهم، فقال: (قل استهزؤوا إِن الله مخرج ما تحذرون).
تجدر الإِشارة إِلى أنّ جملة (استهزؤوا) من قبيل الأمر لأجل التهديد كما يقول الإِنسان لعدوّه: اعمل كل ما تستطيع من أذى وإِضرار لترى عاقبة امرك، ومثل هذه الأساليب والتعبيرات تستعمل في مقام التهديد.
كما يجب الإِلتفات إِلى أنّنا نفهم من الآية بصورة ضمنية أنّ هؤلاء المنافقين يعلمون بأحقية دعوة النّبي (ص) وصدقها، ويعلمون في ضميرهم ووجدانهم ارتباط النّبي (ص) بالله سبحانه وتعالى، إلاّ أنهم لعنادهم وإِصرارهم بدل أن يؤمنوا به ويسلموا بين يديه، فإنّهم بدأوا بمحاربته وإضعاف دعوته المباركة، ولذلك قال القرآن الكريم: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم).
وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ جملة (تنزل عليهم) لا تعني أن أمثال هذه الآيات كانت تنزل على المنافقين، بل المقصود أنّها كانت تنزل في شأن المنافقين وتبيّن أحوالهم.
﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾ يخافون خبر أو أمر ﴿أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ على المؤمنين ﴿سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم﴾ من الشرك فتفضحهم وقيل أظهروا الحذر فيما بينهم استهزاء ﴿قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ﴾ تهديد ﴿إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ﴾ مظهر ﴿مَّا تَحْذَرُونَ﴾ إظهاره من نفاقكم.