لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ولمّا كان بعض المذنبين - كالمتخلفين عن غزوة تبوك - يصرّون على النّبي (ص) في قبول توبتهم، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إِلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطاً بالنّبي (ص) ، بل بالله الغفور الرحيم، لذا قالت: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَوبَةَ عَنْ عِبادِهِ). ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إِنَّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأُخرى التي يعطيها العباد تقرباً إِليه، أو تكفيراً لذنوبهم: (ويأخذ الصدقات). لا شكَّ في أنَّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبي (ص) أو الإِمام المعصوم (ع) أو خليفة المسلمين وقائدهم، أو الأفراد المستحقون، وفي كلَّ هذه الأحوال فإنّ الله تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهراً، ولكن لمّا كانت يد النّبي (ص) والنّواب الحقيقيين يد الله سبحانه - لأنَّهُم خلفاء الله ووكلاؤه - قالت الآية: إِنَّ الله يأخذ الصدقات. وكذلك العباد المحتاجون، فإنَّهُم يأمر الله يأخذون مثل هذه المساعدات، وهم في الحقيقة وكلاء الله، وعلى هذا فإنَّ يدهم يد الله أيضاً. إِنَّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإِسلامي - أي الزكاة - فبالرغم من ترغيب كلَّ المسلمين ودعوتهم إِلى القيام بهذه الوظيفة الإِلهية الكبيرة، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإِسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إِليه، لأنَّ من يأخذها هو الله عزَّوجَلّ، وإنَّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين، أو اعطائه الزكاة بشكل يؤدي إِلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلِّ أدب وخضوع، كما يوصل العبد شيئاً إِلى مولاه. ففي رواية عن النّبي (ص): "إِنَّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إِلى يد السائل" (1)! وفي حديث آخر عن الإِمام السّجاد (ع): "إِنَّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب" (2). بل إِنّ رواية صرّحت بأنّ كلَّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلاّ الصدقة، فإنّها تصل مباشرة إِلى يد الله سبحانه (3). هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت (ع) بعبارات مختلفة، ونقل أيضاً عن النّبي (ص) عن طريق العامّة، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري: "ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب - ولا يقبل الله إلاّ الطيب - إلاّ أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل" (4). إنَّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات، والعظيم المعنى، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإِنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإِسلامية. لقد وردت عبارات حديثية أُخرى في هذا المجال، وهي مهمّة وملفتة للنظر إِلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته. فمثلا نجد في بعض الأحاديث، أن الأئمّة المعصومين (ع) كانوا أحياناً يقبلون الصَّدقة احتراماً وتعظيماً للصدقة، ثمّ يعطونها الفقراء، أو إِنَّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبِّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إِليه، لماذا؟ لأنَّهم وضعوها في يد الله سبحانه! وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإِسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة، بل ويرمون مساعدتهم أحياناً بلا أدب وخلق؟! وكما قلنا في محلّة، فإنّ الإِسلام يسعى بكلِّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإِسلامي، إلاّ أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلِّ مجتمع أفراداً عاجزين أطفال، يتامى، مرضى... وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم. ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد: (وَإِنَّ الله هُوَ التَّوّاب الرَّحِيم). التّوبة والجبران: يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه، كما هو في هذه الآيات، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة. ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنباً مالياً، أو أي ذنب آخر، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية، وذلك بالعمل الصالح، وهذا هو الذي يُرْجِع الروح إِلى طهارتها الأُولى التي كانت عليها قبل الذنب. وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مَرَّت بصورة جديدة، وتأمر النّبي (ص) أن يبلغ الناس: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوُلُهُ وَالمُؤْمِنُونَ) فهي تشير إِلى أن لا يتصور أحد أنّه إِذا عمل عملا، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه، بل إِنَّ الرّسول (ص) والمؤمنين يعلمون به إِضافةً إِلى علم الله عزَّوجلّ. إِنَّ الإِلتفات إِلى هذه الحقيقة والإِيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات، فإنّ الإِنسان - عادة - إِذا أحسّ بأنّ أحداً ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته، فإنَّه يحاول أن يتصرّف تصرفاً لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه، فكيف إِذا أحسّ وآمن بأنَّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟! إِنَّ هذا الإِطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر، لذا فإِنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالَمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنُبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ملاحظات 1 - مسألة عرض الأعمال إِنّ بين أتباع مذهب أهل البيت (ع) ، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّة (ع) ، عقيدة معروفة ومشهورة، وهي أنّ النّبي (ص) والأئمّة (ع) يطلعون على أعمال كل الأُمّة، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم. إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً، وربّما بلغت حدّ التواتر، وننقل هنا أقساماً منها كنماذج: روي عن الإِمام الصادق (ع) أنّه قال: "تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح، أبرارها وفجارها، فاحذروها، وهو قول الله عزَّوجلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وسكت (5). وفي حديث آخر عن الإِمام الباقر (ع): "إِنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح" (6). وفي رواية أُخرى عن الإِمام علي بن موسى الرضا (ع) ، أنّ شخصاً قال له: ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: "أولست أفعل؟ والله أنّ أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة". ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ﴾ تقرير وحث على التوبة والصدقة ﴿أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ ضمن معنى التجاوز فعدي بعن ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ يقبلها ﴿وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ﴾ يقبل توبة التائبين ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم.