لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي آخر آية إشارة إصرار المنافقين وعنادهم، فهي تعبّر عن تعصبهم وإصرارهم في أعمالهم، وعنادهم في نفاقهم، وحيرتهم في ظلمة كفرهم، فهم في شك من بنيانهم الذي بنوه، أو في النتيجة المرجوة منه، وسيبقون في هذه الحال حتى موتهم: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلاّ أن تقطع قلوبهم). إنّ هؤلاء يعيشون حالة دائمة من الحيرة والإِضطراب، وإن مقر النفاق الذي أقاموه، والمسجد الضرار الذي بنوه، سيبقى عامل تردد ولجاجة في أرواح هؤلاء، فبالرغم من أنّ النّبي (ص) قد أحرق هذا البناء وهدمه، إلاّ أن أثره وأهدافه قد لا تزول من القلوب. وتقول الآية أخيراً: (والله عليم حكيم) فإنّه تعالى إنّما أمر نبيّه (ص) بهدم هذا البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهراً، حتى تتبيّن نيّات السوء التي انطوى عليها هؤلاء، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإِلهي هو عين الحكمة، وحسب صلاح المجتمع الإِسلامي، وقد صدر على هذا الأساس، لا أنّه حكم عجول صدر نتيجة انفعال أو في لحظة غضب. بحوث 1 - درس كبير إنّ قصّة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات، فإنّ قول الله سبحانه وعمل النّبي (ص) يوضحان تماماً بأنّ المسلمين يجب أن لا يكونوا سطحيين في الرؤية مطلقاً، وأن لا يكتفوا بالنظر إِلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة الحق، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها، والمستترة بهذا الظاهر البراق. المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان، وفي كل مكان، وبأي لباس تلبس، وبأي صورة يظهر بها، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب، أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد. إنّ الإِستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئاً جديداً، بل هو طريق الإِستعمار وأُسلوبه على الدوام، فإنّ وسيلة الجبارين والمنافقين وأُسلوبهم في العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما، واستغلال تلك الرغبة في سبيل إغفالهم وبالتالي استعمارهم، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك. وأساساً فإنّ جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة، هو تحوير الميول المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبّها في القنوات التي يريدونها ويديرونها. ومن البديهي أنّ محاربة الإِسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة، وذلك في عصر النّبي (ص) ، ومع ذلك النفوذ الخارق للإِسلام والقرآن، أمر غير ممكن، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب البسطاء والسذج من الناس. إلاّ أنّ المسلم الحقيقي ليس سطحياً إِلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه الظواهر، بل إنّه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج، ويحقق القرائن الأُخرى التي لها علاقة البرامج وماهيتها، وبذلك سيرى الصورة الباطنية للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية. المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرّد موافقتها الظاهرية للحق، ويلبي تلك الدعوة. المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إِليه، ويؤيد ويدعم كل حركة يشاهدها بمجرّد رفعها شعاراً دينياً، أو يتعهد بالإِنضمام تحت أي لواء يرفع باسم المذاهب والدين، أو ينجذب إِلى كل بناء يشيد باسم الدين. المسلم يجب أن يكون حذراً، واعياً، واقعياً، بعيد النظر، ومن أهل التحليل والتحقيق في كل المسائل الإِجتماعية. المسلم يعرف المتمردين العصاة في لباس الملائكة والوداعة، ويميز الذئاب المتلبسة بلباس الحراس والرعاة، ويُعد نفسه لمحاربة الأعداء الظاهرين بصورة الأصدقاء. هناك قاعدة أساسية في الإِسلام، وهي أنّه يجب معرفة النيات قبل كل شيء، وأنّ قيمة كل عمل ترتبط بنيّته، لا بظاهره، فبالرغم من أنّ النية أمر باطني، إلاّ أن أحداً لا يمكنه إضمار نيّته دون أن يظهر أثرها على جوانب عمله وفلتاته، حتى ولو كان ماهراً ومقتدراً في اخفائها. ومن هذا سيتّضح الجواب عن هذا السؤال، وهو: لماذا أصدر النّبي (ص) أمراً بحرق المسجد الذي هو بيت الله، ويأمر بهدم المسجد الذي لا يجوز شرعاً إِخراج حصاة واحدة من حصاة، ويجعل المكان الذي يجب تطهيره فوراً إِذا ما تنجس محلا لجمع الفضلات والقاذورات!! وجواب كل هذه الأسئلة موضوع واحد، وهو أنّ مسجد الضرار لم يكن مسجداً بل معبداً للأصنام... لم يكن مكاناً مقدساً، بل مقراً للفرقة والنفاق... لم يكن بيت الله، بل بيت الشيطان... ولا يمكن أن تبدل الأسماء والعناوين والأقنعة من واقع الأشياء شيئاً مطلقاً. كان هذا هو الدرس الكبير الذي أعطته قصّة مسجد الضرار لكل المسلمين، وفي كل الأزمنة والأعصار. وتتّضح من هذا البحث - أيضاً - أهمية الوحدة بين صفوف المسلمين من وجهة نظر الإسلام، والتي تبلغ حداً بحيث إِذا كان بناء مسجد جنب مسجد يؤدي إِلى التفرقة والإِختلاف بين صفوف المسلمين فلا قدسية لذلك المسجد إطلاقاً. 2 - النفي لا يكفي لوحده! الدرس الثّاني الذي يمكن أخذه من هذه الآيات، هو أنّ الله سبحانه وتعالى أمر نبيّه (ص) في هذه الآيات أن لا يصلي في مسجد الضرار، بل يصلي في المسجد التي وضعت قواعده وأُسسه على أساس التقوى. إِنّ النفي والإِثبات يتجلى في الإِسلام من شعاره الأصلي (لا إِله إلاّ الله) إِلى أُموره الصغيرة والكبيرة الأُخرى، يبيّن هذه الحقيقة، وهي ضرورة وجود الاثبات إِلى جانب النفي دائماً على أرض الواقع العملي، فإنّا إِذا نهينا الناس عن الذهاب إِلى مراكز الفساد، فيجب أن نبني ونوفر لهم المقابل المراكز النقية الصالحة لإشباع روح الحياة الجماعية في الفرد وإرضائها... إِذا منعنا وسائل اللهو المنحرفة، فيجب توفير وسائل لهو سالمة وهادفة... إِذا حاربنا الثقافة الإستعمارية، فيجب أن تهيىء الثقافة الصحيحة والمراكز السليمة والمدارس الصالحة للتربية والتعليم... إِذا شجبنا الإنحلال الخلقي والسقوط الإِجتماعي، فيجب أن نوفر وسائل الزواج البسيطة ونضعها تحت تصرف الشباب. الأشخاص الذين صبّوا كل اهتماماتهم في جانب النفي، دون الاهتمام بالجانب الإِيجابي والإِثباتي، عليهم أن يتيقنوا بأن نفيهم لوحده لا يثمر شيئاً، لأنّ سنّة الحياة أن تشبع كل الغرائز والأحاسيس عن الطريق الصحيح، ولأنّ قانون الإِسلام المسلّم به أن كل (لا) يجب أن تصحبها (إلا) ليتولد منها التوحيد الذي يهب الحياة. وهذا هو الدرس الذي نساه الكثير من المسلمين مع الأسف رغم تقصيرهم هذا يشكون من عدم تقدم وتطور البرامج الإسلامية! هذا في الوقت الذي لا ينحصر برنامج الإسلام بالنفي كما يتخيل هؤلاء، فإنهم إذا قرنوا النفي بالإِثبات فإنّ تقدمهم سيكون حتمياً. 3 - شرطان أساسيان الدرس القيم الثّالث الذي يمكن استنباطه من الآيات محل البحث هو أن المقر والمركز النشط والإِيجابي دينياً وإجتماعياً، هو الذي يتشكل من عنصرين. الأوّل: أن يكون الأساس الذي يستند إِليه، والهدف الذي يطمح إِلى تحقيقه، طاهرين من البداية: (أسس على التقوى من أول يوم). الثّاني: أن يكون رواد هذا المركز وحماته أناساً طاهرين ومخلصين ومؤمنين: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا). إِنّ فقدان أحد هذين الركنين الأساسيين يعني انهيار البناء وعدم وصوله إِلى الهدف المنشود. ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً﴾ شكا ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ لازديادهم نفاقا ببنائه وهدمه ﴿إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ تنقطع بأن يموتوا ﴿وَاللّهُ عَلِيمٌ﴾ بضمائرهم ﴿حَكِيمٌ﴾ في حكمه فيهم.