كما هي طريقة القرآن المجيد، حيث أنّه يُجمِل الكلام في آية، ثمّ يعمد إِلى التفصيل في الآية التي تليها، فقد بيّن سبحانه في الآية الثّانية حال البائعين للروح والمال لربّهم عزَّوجلّ، فذكر تسع صفات مميزة لهم:
1 - فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة: (التائبون).
2 - وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم: (العابدون).
3 - وهم يحمدون ويشكرون كل نعم الله المادية والمعنوية: (الحامدون).
4 - وهم يتنقلون من مكان عبادة إِلى آخر: (السائحون).
وبهذا الترتيب فإنّ برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة، أو في إطار محدود، بل إن كان مكان هو محل عبدة لله وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة لهؤلاء، وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنّهم سيقصدونه.
(سائح) في الأصل مأخوذ من (سيح) ، و (سياحة) والتي تعني الجريان والإِستمرار.
وهناك بحث بين المفسّرين فيما هو المقصود من السائح في الآية، وأي نوع من الجريان والإِستمرار والسياحة هو؟
فالبعض يرى - كما قلنا أعلاه - إن السير في تربية النفس وجهادها إِنّما يكون في أماكن العبادة، ففي حديث عن النّبي (ص): "سياحة أُمّتي في المساجد" (3).
والبعض الآخر يقول: إِنّ السائح يعني الصائم، لأنّ الصوم عمل مستمر طوال اليوم، وفي حديث آخر عن النّبي (ص): "إِن السّائحين هم الصّائمون" (4).
والبعض الآخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التنقل والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار عظمة الله، ومعرفة المجتمعات البشرية، والتعرف على عادات وتقاليد وعلوم الأقوام التي تحيي فكر الإِنسان وتنميه وتطوره.
وفريق آخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التوجه إِلى ميدان الجهاد ومحاربة الأعداء، ويستشهدون بالحديث النبوي: "إِنّ سياحة أُمّتي الجهاد في سبيل الله". (5)
وأخيراً فإنّ البعض يرى أنّها سير العقل والفكر في المسائل العلمية المختلفة المرتبطة بعالم الوجود والتفكر فيها، ومعرفة عوامل السعادة والإِنتصار، وأسباب الهزيمة والفشل.
إِلاّ أنّ أخذ الأوصاف - التي ذكرت قبل السياحة وبعدها - بنظر الإِعتبار يرجح المعنى الأوّل، ويجعله الأنسب من بين المعاني الأُخرى، وإن كانت كل هذه المعاني ممكنة في هذه الكلمة، لأنّها جمعت في مفهوم السير والسياحة.
5 - وهم يركعون مقابل عظمة الله: (الراكعون).
6 - ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له: (الساجدون).
7 - وهم يدعون الناس لعمل الخير: (الآمرون بالمعروف).
8 - ولم يقتنعوا بهذه الدّعوة للخير، بل حاربوا كل منكر وفساد: (والناهون عن المنكر).
9 - وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقومون بأداء آخر وأهم واجب اجتماعي، أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين الله، وإقامة الحق والعدالة: (والحافظون لحدود الله).
وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإنّ الله يرغّب - مرّة أُخرى - أمثال هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج الإيمان والعمل، ويقول للنبي (ص): (وبشر المؤمنين).
ولما لم يذكر متعلق البشارة، وبتعبير آخر: إنّ البشارة لما جاءت مطلقة فإنّها تعطي مفهوماً أوسع يدخل ضمنه كل خير وسعادة، أي بشر هؤلاء بكل خيرسعادة وفخر.
وينبغي الإلتفات إلى أن الصفات الست الأُولى ترتبط بجانب جهاد النفس وتربيتها، والصفة السّابعة والثّامنة ترتبطان بالواجبات الإجتماعية الحساسة، وتشيران إلى تطهير محيط المجتمع من السلبيات، والصفة الأخيرة تتحدث عن المسؤوليات المختلفة المتعددة المرتبطة بتشكيل الحكومة الصالحة، والمشاركة الجدية في المسائل السياسية الإيجابية.
﴿الْعَابِدُونَ﴾ لله مخلصين له الدين ﴿الْحَامِدُونَ﴾ له على السراء والضراء ﴿السَّائِحُونَ﴾ الصائمون فعنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) سياحة أمتي الصوم ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ﴾ أي المصلون ﴿الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ خصا بالعطف تنبيها على أنها خصلة واحدة وفي ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ﴾ بامتثال أوامره ونواهيه على أنه مجمل ما فصل ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وضع موضع بشرهم إشعار بأن إيمانهم دعاهم إلى ذلك وحذف المبشر به تعظيما.