لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النزول روي الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان عن ابن عباس، أنّ النّبي (ص) لما سار إِلى ميدان القتال، كان جميع المسلمين يسيرون بين يديه باستثناء المنافقين والمعذورين، إلاّ أنّه بعد نزول الآيات التي ذمت المنافقين، وخاصّة المتخلفين عن غزوة تبوك، فإنّ المؤمنين صمموا أكثر من قبل على المسارعة إِلى ميادين الحرب، بل وحتى في الحروب التي لم يشارك فيها النّبي (ص) بنفسه، فإنّ جميع السرايا كانت تتوجه الى الجهاد، ويدعون النّبي (ص) وحده، فنزلت الآية وأعلنت أنّه لا ينبغي في غير الضرورة أن يذهب جميع المسليمن إِلى الجهاد، بل يجب أن يبقى جماعة منهم ليتعلموا العلوم الإِسلامية وأحكام الدين من النّبي (ص) ويعلموا أصحابهم المجاهدين عند رجوعهم من القتال. وقد نقل هذا المفسّر الكبير سبباً آخر للنّزول بهذا المضمون أيضاً، وهو أنّ جماعة من أصحاب النّبي (ص) انتشروا بين القبائل يدعونهم إِلى الإِسلام، فرحبّوا بهم وأحسنوا إِليهم، إلاّ أنّ بعضهم قد لامهم على تركهم النّبي (ص) والتوجه إِليهم، وقد تأثر هؤلاء لذلك ورجعوا إِلى النّبي (ص) ، فنزلت الآية تؤيد عمل هؤلاء في الدعوة إِلى الإِسلام، وأزالت قلقهم. وروي سبب ثالث للنزول في تفسير "التبيان"، وهو أنّ الأعراب لما أسلموا توجّهوا جميعاً نحو المدينة لتعلم الأحكام الإِسلامية، فسبّب ذلك ارتفاع قيمة البضائع والمواد الغذائية، وإِيجاد مشاكل ومشاغل أُخرى لمسلمي المدينة، فنزلت الآية وعرّفتهم بأنّه لايجب توجههم جميعاً إِلى المدينة وترك ديارهم وأخلاؤها، بل يكفي أن يقوم بهذا العمل طائفة منهم. التّفسير محاربة الجهل وجهاد العدو: إِنّ لهذه الآية ارتباطاً بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد، وتشير إِلى حقيقة حياتية بالنسبة للمسلمين، وهي: أنّ الجهاد وإِن كان عظيم الأهمية، والتخلف عنه ذنب وعار، إلاّ أنّه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنون كافة إِلى ساحات الجهاد، خاصّة في الموارد التي يبقى فيها النّبي (ص) في المدينة، بل يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إِلى الجهاد: (وماكان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين). فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف الإِسلامية، ويحذرونهم من مخالفتها: (ولينذروا قومهم إِذا رجعوا إِليهم) والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر الله سبحانه بانذارهم (لعلهم يحذرون). ملاحظات وهنا ملاحظات ينبغي التوقف عندها: 1 - إِنّ ما قيل في تفسير هذه الآية إِضافةً إِلى أنّه يناسب سبب نزولها المعروف، فإنّه الأوفق مع ظاهر جمل الآية من أي تفسير آخر، إلاّ أنّ الشيء الوحيد هنا هو أنّنا يجب أن نقدر جملة "لتبقى طائفة" بعد "من كل طائفة" أي: لتذهب طائفة من كل فرقة، وتبقى طائفة أُخرى، وهذا الموضوع بالطبع مع ملاحظة القرائن الموجودة في الآية لا يستوجب إِشكالا. (فتأمل بدقة). إِلاّ أنّ بعض المفسّرين احتمل عدم وجود أيّ تقدير في الآية، والمقصود أن جماعة من المسلمين يذهبون إِلى الجهاد تحت عنوان الواجب الكفائي، ويعرفون في ساحات الجهاد أحكام الإِسلام وتعاليمه، ويرون بأنفسهم انتصار المسلمين على الأعداء، الذي هو بذاته نموذج من آثار عظمة وأحقية هذا الدين، وإِذا ما رجعوا يكونون أوّل من يشرح لإِخوانهم ماجرى (1). والإِحتمال الثّالث الذي احتمله بعض المفسّرين. وهو أنّ الآية تبيّن حكماً مستقلا عن مباحث الجهاد، وهو أنّه يجب على المسلمين واجباً كفائياً أن ينهض من كل قوم عدّة أفراد بمسؤولية تعلم الأحكام والعلوم الإِسلامية، ويذهبوا إِلى معاهد العلم الإِسلامية الكبيرة، وبعد تعلمهم العلوم يرجعون إِلى أوطانهم ويبدؤون بتعليم الآخرين (2). ولكن التّفسير الأوّل كما تقدم - أقرب إِلى مفهوم الآية، وإِن كانت إِرادة كل هذه المعاني ليس ببعيد (3). 2 - لقد تصور البعض وجود نوع من المنافاة بين هذه الآية والآيات السابقة، إِذ الآيات السابقة أمرت الجميع بالتوجه إِلى ساحات الجهاد، ووبخت المتخلفين بشدة، أمّا هذه الآية فتقول. أنّه لاينبغي للجميع ان يتوجهوا إِلى ميدان الحرب. ولكن من الواضح أنّ هذين الأمرين قد صدرا في ظروف مختلفة، فمثلا في غزوة تبوك لم يكن هناك بد من توجه كل المسلمين إِلى الجهاد لمواجهة الجيش القوي الذي أعدته إِمبراطورية الروم لمحاربة الإِسلام والقضاء عليه. أمّا في حالة مقابلة جيوش ومجاميع أصغر وأقل فليست هناك ضرورة لتوجه الجميع إِلى الحرب، خاصّة في الحالات التي يبقى فيها النّبي (ص) بنفسه، فإنّه يجب عليهم أن لا يُخلوا المدينة مع احتمالات الخطر المتوقعة، وأن لا يغفلوا عن التفرغ لتعلم المعارف والأحكام الإِسلامية. وعلى هذا فلا يوجد أي نوع من التنافي بين هذه الآيات، وما تصوره البعض من التنافي هو اشتباه محض. 3 - لا شك أنّ المقصود من التفقه في الدين هو تحصيل جميع المعارف والأحكام الإِسلامية، وهي أعم من الأصول والفروع، لأنّ كل هذه الأُمور قد جمعت في مفهوم التفقه، وعلى هذا، فإنّ هذه الآية دليل واضح على وجوب توجه فئة من المسلمين وجوباً كفائياً على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات الإِسلامية، وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إِلى مختلف البلدان، وخصوصاً بلدانهم وأقوامهم، ويعلمونهم مختلف المسائل الإِسلامية. وبناء على ذلك، فإنّ الآية دليل واضح على وجوب تعلم وتعليم المسائل الإِسلامية، وبتعبير آخر فإنّها أوجبت التعلم والتعليم معاً، وإِذا كانت الدنيا في يومنا الحاضر تفتخر بسنّها التعليم الإِجباري، فإنّ القرآن قد فرض قبل أربعة عشر قرناً هذا الواجب على المعلمين علاوة على المتعلمين. 4 - استدل جماعة من علماء الإِسلام بهذه الآية على مسألة جواز التقليد، لأنّ التقليد إِنّما هو تعلم العلوم الإِسلامية وإِيصالها للآخرين في مسائل فروع الدين، ووجوب اتباع المتعلمين لمعلمين. وكما قلنا سابقاً، فإنّ البحث في هذه الآية لا ينحصر في فروع الدين، بل تشمل حتى المسائل الأُصولية، وتتضمن الفروع أيضاً على كل حال. الإِشكال الوحيد الذي يثار هنا، هو أنّ الإِجتهاد والتقليد لم يكن موجوداً في ذلك اليوم، والاشخاص الذين كانوا يتعلّمون المسائل ويوصلونها للآخرين حكمهم كحكم البريد والإِرسال في يومنا هذا، لاحكم المجتهدين، أي إِنهم كانوا يأخذون المسألة من النّبي (ص) ويبلغونها للآخرين كما هي من دون إِبداء أي رأي أو وجهة نظر. ولكن مع الاخذ بنظر الاعتبار المفهوم الواسع للإِجتهاد والتقليد يتّضح الجواب عن هذا الإِشكال. وتوضيح ذلك: إِن ممّا لا شك فيه أن علم الفقه على سعته التي نراها اليوم لم يكن له وجود ذلك اليوم، وكان من السهل على المسلمين أن يتعلّموا المسائل من النّبي (ص) ، لكن هذا لا يعني أنّ علماء الإِسلام كان عملهم هو بيان المسائل فقط، لأن الكثير من هؤلاء كانوا يذهبون إِلى الأماكن المختلفة كقضاة وأمراء، ومن البديهي أن يواجهوا من المسائل مالم يسمعوا حكمها بالذات من النّبي (ص) ، إلاّ أنّها كانت موجودة في عمومات واطلاقات آيات القرآن المجيد. فكان هؤلاء قطعاً يقومون بتطبيق الكليات على الجزئيات - وفي الإِصطلاح العلمي: رد الفروع إِلى الأُصول ورد الأُصول على الفروع - لمعرفة حكم هذه المسائل، وكان هذا بحد ذاته نوعاً من الإِجتهاد البسيط. إِنّ هذا العمل وأمثاله كان موجوداً في زمن النّبي (ص) حتماً، فعلى هذا فإنّ الجذور الأصلية للإِجتهاد كانت موجودة بين أصحاب النّبي (ص) ، ولو أنّ الصحابة لم يكونوا جميعاً بهذه الدرجة. ولما كان لهذه الآية مفهوماً عاماً، فإنّها تشمل قبول أقوال موضحي وناقلي الأحكام، كما تشمل قبول قول المجتهدين، وعلى هذا، فيمكن الإِستدلال بعموم الآية على جواز التقليد. 5 - المسألة المهمّة الأُخرى التي يمكن استخلاصها من الآية، هي الأهمية الخاصّة التي أولاها الإِسلام لمسألة التعليم والتعلم، إِلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعاً إِلى ميدان الحرب، بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإِسلامية. إِنّ هذا يعني أن محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء، ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن الآخر. بل إِن المسلمين مالم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع، فإنّهم سوف لا ينتصرون على الأعداء، (لأنّ الأُمّة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائماً). أحد المفسّرين المعاصرين ذكر في ذيل هذه الآية بحثاً جميلا، وقال: كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإِداري من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية - فقال لي مرّة: لماذا تستثني الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من الخدمة العسكرية وهي واجبة شرعاً وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؟ يعرّض بي - أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع؟ فقلت له على البداهة: بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم، وتلوت عليه الآية فاستكثر الجواب على مبتدىء مثلي لم يقرأ التّفسير وأثنى ورعاً (4). ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ ما ساغ لهم أن ينفروا جميعا عن بلدانهم لغزو أو طلب علم ﴿فَلَوْلاَ﴾ فهلا ﴿نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾ قبيلة ﴿مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ جماعة وبقيت جماعة أخرى ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ما ينذرونه أمرهم الله أن ينفروا إلى رسوله ويختلفوا إليه فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلمونهم، وقيل بل أمر طائفة أن ينفروا للغزو ويقيم طائفة مع النبي للتفقه وإنذار النافرة وتعليمها بعد رجوعهم.