لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتتطرق الآية الثّانية إِلى قسم آخر من العلامات والدلائل السماوية والأرضية الدالّة على وجوده سبحانه، فتقول: (إِنّ في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون) فليست السماء والأرض بذاتهما من آيات الله وحسب، بل إن كل واحدة من الموجودات التي توجد فيهما تعتبر آية بحد ذاتها، إلاّ أنّ الذين يدركون تلك الآيات هم الذين سمت أرواحهم وصفت نتيجة لتقواهم وبعدهم عن المعاصي، وهم الذين يقدرون على رؤية وجه الحقيقة وجمال المعشوق. ملاحظات وهنا ملاحظات ينبغي الإِنتباه لها: 1 - هناك نقاش طويل بين المفسّرين في الفرق بين كلمتي الضياء والنور، فالبعض منهم اعتبرهما مترادفتين وأن معناهما واحداً، والبعض الأخر قالوا: إِنّ الضياء استعمل في ضوء الشمس فالمراد به النور القوي، أمّا كلمة النور التي استعملت في ضوء القمر فإِنّها تدل على النور الأضعف. الرأي الثّالث في هذا الموضوع هو أنّ الضياء بمعنى النور الذاتي، أمّا النور فإِنّه أعم من الضياء ويشمل الذاتي والعرضي، وعلى هذا فإِنّ اختلاف تعبير الآية يشير إِلى هذه النقطة. وهي أنّ الله سبحانه قد جعل الشمس منبعاً فوّاراً للنور، في الوقت الذي جعل للقمر صفة الإِكتساب، فهو يكتسب نوره من الشمس. والذي يبدو أنّ هذا التفاوت مع ملاحظة آيات القرآن، هو الأصح، لأنا نقراً في الآية (16) من سورة نوح: (وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً) وفي الآية (61) من سورة الفرقان، (وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً) فإِذا لاحظنا أنّ نور السراج ينبع من ذاته، وهو منبع وعين للنور، وأن الشمس قد شُبهت في الآيتين بالسراج، سيتّضح أنّ هذا التفاوت مناسب جداً في الآيات مورد البحث. 2 - هناك اختلاف بين أهل الكتاب وكتّاب اللغة في أن (ضياء) جمع أم مفرد، فالبعض، كصاحب كتاب "القاموس"، اعتبرها مفرداً، إلاّ أن البعض الآخر كالزجّاج إِعتبر الضياء جمعاً للضوء، وقد قبل هذا المعنى صاحبا تفسير "المنار" وتفسير "القرطبي"، وخاصّة صاحب المنار، حيث استفاد على أساس هذا المعنى إِستفادة خاصّة من الآية، فهو يقول: إِن ذكر الضياء بصيغة الجمع في شأن نور الشمس إِشارة إِلى الشيء الذي أثبته العلم اليوم بعد قرون، وهو أنّ نور الشمس مكون من سبعة أنوار، وبتعبير آخر سبعة ألوان، هي الألوان التي تظهر في قوس قزح، وتلاحظ عند مرور النور عبر المناشير البلورية. ولكن يبقى هنا سؤال، وهو: هل أن نور القمر، رغم أنّه أضعف، غير متكون من الألوان المختلفة؟ 3 - هناك بحث ونقاش بين المفسّرين في أنّ ضمير (قدّره منازل) يعود إِلى القمر فقط، أم يرجع إِلى الشمس والقمر؟ فالبعض يعتقد أن الضمير وإِن كان مفرداً، إِلاّ أنّه يعود إِلى الإِثنين معاً، ونظير ذلك في الأدب العربي غير قليل. اختيار هذا الرأي من أجل أن القمر ليس الوحيد الذي له منازل، بل إِنّ للشمس أيضاً منازل، ففي كل وقت تكون في برج خاص، والإِختلاف في الأبراج هذا هو مبدأ التاريخ والأشهر الشمسية. والحق أنّ ظاهر الآية يوحي بأنّ هذا الضمير المفرد يعود للقمر فقط، لقربه منه، وهذا بنفسه يحتوي على نكتة، ذلك: أوّلا: إِنّ الأشهر التي عرفت في الإِسلام والقرآن رسمياً هي الأشهر القمرية. ثانياً: إِنّ القمر كرة متحركة ولها منازل، أمّا الشمس فإِنّها تقع في وسط المنظومة الشمسية، وليس لها حركة ضمن مجموع هذه المنظومة، وإِنّ اختلاف الأبراج ومسير الشمس في المدار الفلكي ذي الإِثني عشر برجاً، والذي يبداً من الحمل وينتهي بالحوت، ليس بسبب حركة الشمس، بل بسبب حركة الأرض حول الشمس، ودوران الأرض هذا هو السبب في أن نرى الشمس تقابل كل شهر واحداً من البروج الفلكية الإِثني عشر، وعلى هذا فليس للشمس منازل مختلفة خلافاً للقمر. (دققوا جيداً). إِنّ هذه الآية في الحقيقة تشير إِلى إِحدى المسائلالعلمية المرتبطة بالأجرام السماوية كانت خافية على البشر في ذلك الزمان حيث ما يدركوا هذا الفرق بين حركة الشمس والقمر. 4 - لقد عدت الآيات أعلاه اختلاف الليل والنهار من آيات الله سبحانه، وذلك لأنّ نور الشمس إِذا استمر في إِشعاعه على الأرض، فإِنّ من المسلّم أن درجة الحرارة سترتفع إِلى الحد الذي تستحيل معه الحياة على وجه الأرض. وكذلك الليل إِذا استمر فإِنّ كل شيء سينجمد لشدّة البرودة. إِلاّ أنّ الله سبحانه قد جعل هذين الكوكبين يتبع أحدهما الآخر لتهيئة أسباب الحياة والمعيشة على وجه الكرة الأرضية (2). إِنّ أثر العدد والحساب والتاريخ والسنة والشهر في نظام حياة البشر والروابط الإِجتماعية والمكاسب والأعمال لا يخفى على أحد. 5 - إِنّ مسألة العدد والحساب التي أشير إِليها في الآيات أعلاه، هي في الواقع واحدة من أهم مسائل حياة البشر في جميع النواحي والمجالات. نعلم إنّ أهمية أية نعمة تتّضح أكثر عندما نلاحظ الحياة بدون تلك النعمة، وعلى هذا فلو أن حساب التاريخ وامتياز الأيّام والأشهر والسنين رفع من حياة البشر، مثلا لا توجد أيام واضحة ومحددة للأسبوع، ولا أيّام الشهر، ولا عدد الشهور والسنين، ففي هذه الحالة ستتعرض كل المسائل التجارية والإِقتصادية والسياسية وكل الإتفاقيات والبرامج الزمنية المعدة للخلل وعندها سوف لا يثبت حجر على حجر و ستنفرط عقده النظم في الاعمال، وحتى وضع الزراعة وتربية الحيوانات والصناعات الإِنتاجية ستعمها الفوضى والإِضطراب. لكن لما كان الله سبحانه قد خلق الإِنسان ليحيا حياة سعيدة مقرونة بالنظام، فإِنّه قد وضع وسائلها تحت تصرفه. صحيح أن الإِنسان يمكنه تنظيم أعماله إِلى حدّ ما بالأُمور الاعتبارية، إلاّ أنّه إِذا لم يستند إِلى الميزان الطبيعي فإنّ مقياسه الجعلي لا يكون عاماً و شاملا، وليس قابلا للإِعتماد. إِنّ دوران الشمس والقمر - وبتعبير أصح دوران الأرض حول الشمس - والمنازل التي لهما، يشكل تقويماً طبيعياً واضح الأساس ويستفيد منه الجميع في كل مكان، ويعتمدون عليه، فكما أن مقدار اليوم والليلة يعتبر مقياساً تاريخياً صغيراً ينشاً نتيجة عالم طبيعي، أي حركة الأرض حول نفسها، فإِنّ الشهر والسنة يجب أن تستند إِلى دوران طبيعي، وعلى هذا المنوال فإِنّ حركة القمر حول الأرض يشكل مقياساً أكبر، فإِنّ الشهر يساوي ثلاثين يوماً تقريباً، وحركة الأرض حول الشمس ينتج منها مقياس أعظم، وهو السنة. قلنا: إِنّ التقويم الإِسلامي يستند إِلى التقويم القمري ودوران القمر، ورغم أنّ دوران الشمس في الأبراج الإِثني عشر طريقة جيدة لتعيين الأشهر الشمسية، أنّ هذا التقويم مع أنّه طبيعي، إلاّ أنّه لا ينفع الجميع، وإِنّما يستطيع علماء النجوم فقط عبر رصد النجوم من تحديد كون الشمس في البرج الفلاني، ولهذا السبب فإِنّ الآخرين مجبورون على مراجعة التقاويم التي نظمت من قبل هؤلاء المنجمين. أن دوران القمر المنتظم حول الأرض يعطي تقويماً واضحاً يستطيع قراءة خطوطه وخرائطه حتى الأميون وسكّان البوادي. وتوضيح ذلك إن هيئة القمر تختلف في كل ليلة في السماء عن الليلة السابقة واللاحقة، بحيث لا توجد ليلتان في طول الشهر تتحد فيها هيئة القمر في السماء، وإِذا دققنا قليلا في وضع القمر كل ليلة فإِنّنا سنعتاد رويداً رويداً على تعيين تلك الليلة من ليالي الشهر. وقد يتصور البعض أن نصف الشهر الثّاني تتكرر في صور النصف الأوّل بعينها، وأنّ صورة القمر في ليلة الإِحدى والعشرين مثلا هي بعينها صورته في الليلة السابقة، إلاّ أن هذا اشتباه كبير، لأنّ جانب النقص في القمر في النصف الأوّل هو الطرف الأعلى، في حين أنّ جانب نقصه في النصف الثّاني من الطرف الأسفل، وبتعبير آخر فإِنّ أطراف الهلال الدقيقة تكون إِلى الشرق في البداية، بينما هي في الجانب الغربي عند أواخر الشهر، إِضافةً إِلى أنّ القمر يرى في الغرب أوائل الشهر، أمّا في أواخره فإِنّه يرى في الشرق، ويتأخر كثيراً في طلوعه. وعلى هذا فإِنّه يمكن الإِستفادة من شكل القمر مع تغييراته التدريجية كعداد يومي، ولتحديد أيّام الشهر بدقة من خلال شكل القمر. على كل حال، فإِنّنا في هذه الموهبة التي نسميها "النظام التأريخي"، مدينون لهذا الخلق الإِلهي، ولولا حركات القمر والشمس (والأرض) لكان لنا وضع مضطرب وفوضوي في الحياة لم يكن في الحسبان تصوره. إِنّ السجناء في الزنزانات الإِنفرادية المظلمة، والذين أضاعوا الزمان والأوقات ولم يهتدوا إِليها، قد أحسوا بهذه الحيرة وعدم الهدفية والتكليف. يقول أحد السجناء في عصرنا الحاضر الذي قضى شهراً في زنزانة إِنفرادية مظلمة لعملاء الظالمين: لم تكن لي أيّة وسيلة أو طريقة لتحديد أوقات الصلاة، إلاّ أنّهم عندما كانوا يأتونني بالغداء كنت أصلي الظهر والعصر، وإِذا ما أتوا بالعشاء أصلي المغرب والعشاء، وصلاة الصبح عادة مع الفطور! ولكي أحسب الأيّام فإِنّي كنت آخذ وجبات الطعام بنظر الإِعتبار، فكل ثلاث وجبات أعدها يوماً، غير أني لا أعلم ماذا حدث عندما خرجت من السجن، فقد رأيت اختلافاً بين حسابي وحساب الناس!. ﴿إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بالتعاقب والطول والقصر ﴿وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من نيرات وملائكة وغيرها ﴿وَالأَرْضِ﴾ من أجناس الكائنات ﴿لآيَاتٍ﴾ لوجوده ووحدته وعلمه وقدرته ﴿لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ فيصدقون بها.