ثمّ يشير القرآن إِلى وضع فئة أُخرى في مقابل هذه الفئة، فيقول: (إِنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربّهم بإِيمانهم) فإِنّ نور الهداية الإِلهية الذي ينبعث من نور إِيمانهم يضيء كل آفاق حياتهم، وقد اتّضحت لهم الحقائق باشراقات هذا النور بحيث لم تعد شراك المذاهب المادية وزبارجها، ولا الوساوس الشيطانية وبريق المطامع الدنيوية قادرة على التعتيم على افكارهم ودفعهم في طريق الإِنحراف عن الصواب والحق.
إِنّ وضع هؤلاء في الحياة الأُخرى أنّهم (تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم).
إِنّ هؤلاء يرفلون في محيط مملوء بالصلح والصفاء وعشق الله وأنواع النعم، ففي كل وقت تنير وجودهم نفحة ورشحة من ذات الله وصفاته، فإِنّ (دعواهم فيها سبحانك اللّهم) وكلما التقى بعضهم بالآخر فإِنّهم يتحدثون عن الصفاء والسلام (وتحيّتهم فيها سلام) وأخيراً فإِنّهم كلّما إلتذوا بنعم الله المختلفة شكروا ذلك (وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين).
ملاحظات
1 - المقصود من لقاء الله الذي جاء في الآية الأُولى ليس هو اللقاء الحسي قطعاً، بل المقصود أنّ الإِنسان إِضافةً إِلى الحصول على الثواب وعطايا الله، فإِنّه يشعر يوم القيامة بنوع من الحضور القلبي بالنسبة للذات المقدسة، لأنّه حينئذ سيرى آيات الله وعلاماته بصورة أوضح في كل مكان، وسيحصل على رؤية وإدراك جديد لمعرفته (1).
2 - إِنّ الحديث في قوله تعالى: (يهديهم ربّهم بإِيمانهم) عن هداية الإِنسان في ظل الإِيمان، وهذه الهداية لا تختص بعالم الآخرة، بل إِنّ الإِنسان ينجو بنور إِيمانه في هذه الدنيا من كثير من الإِشتباهات والخدع والأخطاء والمعاصي المتولّدة من الطمع والأنانية والأهواء، وسوف يحدد طريقه إِلى الجنّة في الآخرة في ظلّ إِشعاع هذا الإِيمان كما يقول القرآن: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) (2).
وفي حديث عن النّبي (ص): "إِنّ المؤمن إِذا خرج من قبره صُوّر له عمله في صورة حسنة فيقول له: أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إِلى الجنّة" (3).
3 - ورد في هذه الآيات: (تجري من تحتهم الأنهار) في الوقت الذي عبرت آيات أُخرى من القرآن بـ (تجري من تحتها الأنهار) ، وبتعبير آخر، فإِنّنا نقرأ في مواضع أُخرى أنّ الأنهار تجري من تحت أشجار الجنّة، أمّا هنا فإِنّ الأنهار تجري من تحت أهل الجنّة!.
إِنّ هذا التعبير يمكن أن يشير إِلى أنّ قصور أهل الجنّة قد تكون مبنيّة على الأنهار، وهذا يضفي عليها جمالا خارقاً.
وقد يشير إِلى أنّ أنهار الجنّة مسخرّة لأوامرهم وفي قبضتهم، كما نقرأ في قصّة فرعون أنّه كان يقول: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) (4).
وقد احتمل كذلك أن تكون "تحت" بمعنى "بين أيدي" أي أن أنهار الماء تجري مقابلهم.
4 - ممّا يلفت النظر أن آخر آية من الآيات قيد البحث تشير إِلى ثلاث حالات، أو ثلاث نعم كبيرة لأهل الجنّة:
الحالة الأُولى: هي حالة التوجه إِلى ذات الله المقدسة، والبهجة التي تحصل لهم نتيجة هذا التوجه لايمكن مقارنتها بأية لذّة أُخرى.
الحالة الثّانية: اللّذة التي تحصل نتيجة الإِرتباط بالمؤمنين الآخرين في ذلك المحيط المفعم بالودّ والتفاهم، وهذه اللّذة هي أحلى لذّة بعد لذة التوجه إِلى الله سبحانه.
الحالة الثّالثة: اللّذة التي تحصل من التمتع بأنواع نعم الجنّة، وهي تدفعهم إِلى التوجه إِلى الله أيضاً، وبالتالي حمده وشكره.
(فتأمل بدقة)
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ للجنة ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.