وكذلك، ومن أجل التأكيد يضيف: بأنّي أعلم أنّ أقبح أنواع الظلم هو أن يفتري الإِنسان على الله الكذب: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) وعلى هذا فكيف يمكن أن أرتكب مثل هذا الذنب الكبير ؟!.
وكذلك فإِنّ التكذيب بآيات الله سبحانه من أشدّ الكبائر وأعظمها: (أو كذب بآياته) فإِذا كنتم جاهلين بعظمته ما ترتكبونه من الاثمّ في تكذيب وإِنكار آيات الحق، فإِنّي لست بجاهل بها، وعلى كل حال فإِنّ عملكم هذا جرم كبير، و (إنّه لايفلح الظالمون).
بحوث
1 - إِنّ المشركين كانوا يطلبون من النّبي (ص) إِمّا أن يستبدل القرآن بكتاب آخر، أو يبدله، والفرق واضح بين الاثنين، ففي الطلب الأوّل كان هدفهم هو اقتلاع وجود هذا الكتاب تماماً ليحل محله كتاب آخر من طرف النّبي (ص) ، أمّا في الطلب الثّاني فكانوا يريدون على الأقل أن تبدل الآيات التي تخالف أصنامهم حتى لايشعروا بأي ضيق وانزعاج من هذه الناحية.
ونحن نرى كيف أنّ القرآن الكريم أجابهم بلهجة قاطعة بأنّ النّبي (ص) ليس له أي اختيار وتصرف في التبديل، ولا التغيير، ولا تسريع نزول الوحي أو تأخره.
وندرك من ذلك حماقة وغباء هؤلاء فهم يقبلون بالنّبي الذي يتبع خرافاتهم وأهواءهم، لا القدوة والمربي والقائد والدليل!.
2 - ممّا يستحق الإِنتباه، أنّ النّبي (ص) في الإِجابة عن الطلبين اكتفى بذكر عدم القدرة بتنفيذ الطلب الثّاني وقال: إِنّي لا أستطيع أن أغيره من تلقاء نفسي، وبهذا
البيان يكون قد نفى الطلب الأوّل بطريق أولى، لأنّ تغيير بعض الآيات إِذا كان خارجاً عن حدود صلاحية النّبي (ص) ، فهل بامكانه تبديل كل هذا الكتاب السماوي؟
إِنّ هذا نوع من الفصاحة في التعبير، حيث أنّ القرآن الكريم يعيد ويكرر كل المسائل في غاية الضغط والإِختصار في العبارة، بدون جملة أو كلمة زائدة إِضافية.
3 - يمكن أن يقال: إِنّ الدليل المذكور في الآيات - أعلاه - على أنّ القرآن ليس من النّبي (ص) ، وأنّه حتماً من الله سبحانه، ليس مقنعاً.
فما هو وجه الملازمة في أنّ هذا الكتاب إِذا كان من النّبي (ص) فلابدّ أن يكون قد سُمعت منه نماذج ومقاطع من قبل؟
إِلاّ أنّ جواب هذا السؤال واضح بأدنى دقة وتأمل، لأنّ النبوغ الفكري وقدرة و الإِكتشاف والإِبداع في الإِنسان - حسب ما قاله علماء النفس - يبدأ من سن العشرين ويصل كحد أقصى إِلى سن الخامسة والثلاثين أو الأربعين، أي إِن الإِنسان اذا لم يُقدم حتى ذلك الوقت على إِبداع وابتكار عمل جديد، فلايمكنه بعد هذا السن غالباً.
إِنّ هذا الموضوع الذي يعتبر اليوم كشفاً نفسياً لم يكن في الماضي واضحاً إِلى هذا الحدّ، إِلاّ أنّ أغلب الناس يعلمون هذا الموضوع بهداية الفطرة، بأن من غير الممكن أن يكون للإِنسان معتقد ويعيش بين قوم، ولا يُظهر ذلك مطلقاً.
والقرآن الكريم قد استند أيضاً إِلى هذا الأساس وهو: كيف يستطيع النّبي (ص) إِلى هذا العمر أن يمتلك مثل هذه الأفكار ويكتمها الى ذلك الوقت؟
4 - كما أشرنا في ذيل الآية (21) من سورة الأنعام، فإنّ القرآن قد عرّف في موارد كثيرة جماعة من الناس بأنّهم "أظلم" وربّما يبدو لأوّل وهلة أن هناك تناقضاً، فإِنّا إِذا وصفنا جماعة بأنّهم أظلم، فكيف يمكن أن تتقبل مجموعة أُخرى هذه الصفة ؟
وقد قلنا في جواب هذا السؤال: إِنّ كل هذه العناوين ترجع إِلى عنوان واحد، وهو مسألة الشرك والكفر والعناد والإِفتراء والتكذيب بالآيات الإِلهية، وفي الآيات التي نبحثها، تنحدر من هذا الأصل أيضاً.
(لمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام).
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾ بزعمه الشريك والولد له تعالى ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ القرآن ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ المشركون.