لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وأمّا الأمر الثّالث الذي ذكره القرآن حاكياً على لسان هود منتقداً به قومه، فهو قوله: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون). "المصانع" جمع "مصنع" ومعناه المكان أو البناء المجلّل المحكم، والنّبي هود لا يعترض عليهم لأنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملائِمة، بل يريد أن يقول لهم: إنّكم غارقون في أمواج الدنيا، ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الآخرة!... فلم تتخذوا الدنيا على أنها دار ممر، بل اتخذتموها دار مقر دائم لكم... أجل، إنّ مثل هذه المباني التي تُذهل أهلها، وتجعلهم غافلين عن اليوم الآخر، هي لا شك مذمومة! و في بعض الرّوايات عن أنس بن مالك أنّ رسول الله(ص) خرج فرأى قبة فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا الرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه وصنع ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب به وبالاعراض عنه، فشكى ذلك إلى أصحابه وقال: والله إليّ لأنكر رسول الله(ص) ما أدرى ما حدث فيّ وما صنعت؟ قالوا: خرج رسول الله فرأى قبّتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه، فرجع الى قبّته فسواها بالأرض، فخرج رسول الله(ص) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت ها هنا قالوا: شكى إلينا صاحبها انحراصل عنه فاخبرناه فهدمها فقال(ص): "إن كلّ ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلاّ ما لابُدّ منه".(2) ويعرف من هذه الرّواية وما شابهها من الرّوايات نظر الإسلام بجلاء، فكل بناء "طاغوتي" مشيد بالإسراف والبذخ ومستوجب للغفلة... يمقته الإسلام، ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه الأبنية التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن الله، ولا سيما في محيط يسكن فيه المحرومون والمستضعفون... إلاّ أن ما ينبغي التنويه به، أنّ النّبي(ص) لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا الهدف الإِنساني أبداً، ولم يأمر بتخريب البناء، بل استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف كالإِعراض وعدم الإِهتمام بالبناء مثلا!... ثمّ ينتقد النّبي "هود" قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين). فمن الممكن أن يعمل الإنسان عملا يستوجب العقوبة، إلاّ أنّه لا يصح تجاوز الحد والإِنحراف عن جادة الحق والعدل عند محاسبته ومعاقبته، وأن يعامل ذو الجرم الصغير معاملة ذي الجرم الكبير... وأن تسفك الدماء عند الغضب ويقع التماصع بالسيف(3) ، فذلك ما كان يلجأ إليه الجبابرة والظلمة والطغاة آنئذ... ويرى الراغب في المفردات أن "البطش" على زنة (نقش) هو أخذ الشيء بقوّة وقسّوة واستعلاء... وفي الحقيقة أن هوداً يوبخ عبدة الدنيا عن طرق ثلاثة: الأوّل: علاماتهم التي كانت مظهراً لحبّ الإستعلاء وحب الذات، والتي كانت تبنى على المرتفعات العالية ليفخروا بها على سواهم. ثمّ يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة، التي تجرهم إلى الغفلة عن الله، وإن الدنيا دار ممر لا مقر. وأخيراً فإنّه ينتقدهم في تجاوزهم الحدّ والبطش عند الإنتقام... والقدر الجامع بين هذه الأُمور الثلاثة هو الإِحساس بالإِستعلاء وحبّ البقاء. ويدلّ هذا الأمر على أن عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم، وأغفلهم عن ذكر الله حتى ادعوا الألوهية... فهم باعمالهم هذه يؤكّدون هذه الحقيقة، وهي أن "حب الدنيا رأس كل خطيئة".(4) والقسم الثّالث من حديث هود ممّا بيّنه لقومه، هو ذكر نعم الله على عباده ليحرك فيهم - عن هذا الطريق - الإِحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو الله... ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ﴾ مأخذا للماء أو حصونا وقصورا مشيدة ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ كأنكم ﴿تَخْلُدُونَ﴾ أو ترجون الخلود فتحكمونها.