التّفسير:
الاُمّة التي آمنت في الوقت المناسب!
تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصّة، والأقوام السابقة بصورة عامّة، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإِيمان بالله في وقت الإِختيار والسلامة، إلاّ أنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإِلهي أظهروا الإِيمان الذي لم يكن نافعاً لهم آنذاك.
وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام، فتقول: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إِيمانها).
ثمّ استثنت قوم يونس فقالت: (إِلاّ قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إِلى حين) أي إِلى آخر عمرهم.
إِنّ كلمة "لولا" تعني هنا النفي على رأي بعض المفسّرين، ولذلك تمّ الإِستثناء منها بواسطة "إِلاّ" وعلى هذا الأساس يصبح معنى الجملة: لم يؤمن أي من الأقوام والأُمم التي عاشت في الماضي في المدن والأماكن المعمورة أمام أنبياء الله بصورة جماعية إلاّ قوم يونس.
إِلاّ أنّ البعض الآخر معتقد بأنّ كلمة "لولا" لم تأت بمعنى النفي، بل أتت دائماً بمعنى التحضيض - ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض - إلاّ أن لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون نفياً، ولهذا يمكن أن يستثنى منها بـ"إِلاّ".
وعلى كل حال، فلا شك في أنّ جماعات كثيرة من الأقوام السالفة آمنوا أيضاً، إِلاّ أنّ الذي يميز قوم يونس هو أنّهم آمنوا بأجمعهم دفعة واحدة، وكان ذلك قبل حلول العقاب الإِلهي الحتمي، في حين أنّ جماعة كبيرة من بين الأقوام الأُخرى بقوا على مخالفتهم وعنادهم حتى صدر القرار الإِلهي بالعذاب الحتمي، فلمّا رأى هؤلاء العذاب الأليم أظهر أغلبهم الإِيمان، إلاّ أنّ إِيمانهم - وللسبب الذي قلناه سابقاً - لم يكن له أثر ولا نفع.
قصّة إِيمان قوم يونس:
كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ، أنّه عندما يئس يونس من إِيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم، في حين أنّ عالماً كان معهم أيضاً اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم، وأن يستمر في إِرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.
يونس اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم، فاجتمع قومه الذين كانوا قد جربوا صدق أقواله حول ذلك الرجل العالم، ولم يكن أمر العذاب القطعي قد صدر بعد، إلاّ أنّ علاماته قد شرعت في الظهور، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة.
للتضرع والدعاء، وأظهروا الإِيمان والتوبة، ومن أجل أن يزداد توجههم الروحي فرقوا بين الأُمهات والأولاد، ولبسوا اللباس الخشن البالي وهبوّا للبحث عن نبيّهم فلم يعثروا له على أثر.
إِلاّ أنّ هذه التوبة والإِيمان والرجوع إِلى الله، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن وعي مقترن بالإِخلاص قد أثر أثره، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه الى مجاريها.
ولمّا رجع يونس إِلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم.
وسنبيّن تفصيل حياة يونس نفسه في ذيل الآيات (134 - 148) من سورة الصافات، إِن شاء الله تعالى.
والجدير بالذكر، إِنّ قوم يونس لم يستحقوا العذاب الإِلهي، الحتمي، وإِلاّ لم تقبل توبتهم، بل كانت تأتيهم الإِنذارات والتحذيرات التي تظهر عادة قبل العذاب النهائي، وقد كان مقدارها كافياً للتوعية، في حين أنّ الفراعنة مثلا كانوا قد رأوا هذه الإِنذارات مراراً - كحادثة الطوفان والجراد واختلاف ماء النيل الشديد وأمثالها - إلاّ أنّهم لم يعبؤوا بها مطلقاً ولم يأخذوها بمنظار جدي.
واكتفوا بالطلب من موسى أن يدعوا الله ليرفع عنهم هذه الإِبتلاءات ليؤمنوا، لكنّهم لم يؤمنوا مطلقاً.
ثمّ إِنّ القصّة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الأُمّة، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر، وهكذا يفهم من هذه الرّواية منطق الإِسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة.
والعلم الممتزج بالإِحساس بالمسؤولية.
﴿فَلَوْلاَ﴾ فهلا ﴿كَانَتْ قَرْيَةٌ﴾ من القرى المهلكة ﴿آمَنَتْ﴾ قبل حلول العذاب بها ﴿فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ﴾ لكن ﴿قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ﴾ حين رأوا أمارة العذاب ﴿كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ آجالهم.