التّفسير
الحزم في التّعامل مع المشركين:
هذه الآيات والآيات التي تليها، هي آخر آيات هذه السورة، وتتحدث جميعاً حول مسألة التوحيد ومحاربة الشرك والدعوة إِلى الحق، وهي في الحقيقة فهرست أوخلاصة لبحوث التوحيد وتأكيد على محاربة ومجابهة عبادة الأصنام التي بيّنت مراراً في هذه السورة.
إِنّ سياق الآية يوحي بأنّ المشركين كانوا يتوهمون أحياناً أن من الممكن أن يلين النّبي ويتسامح في عقيدته في شأن الأصنام ويعترف ويقرّ لهم عبادة الأصنام ولو جزئياً إِلى جانب الإعتقاد بالله بنحو من الانحاء.
إِلاّ أنّ القرآن ينسف هذا التوهم الواهي بصورة قاطعة وحاسمة ويقطع عليهم احلامهم هذه إِلى الأبد، فلا معنى لأي نوع من المساومة واللين في مقابل الأصنام، ولا معبود إلاّ الله، لاتزيد كلمة ولا تنقص أُخرى.
ففي البداية يأمر النّبي (ص) أن يخاطب جميع الناس: (قل يا أيّها الناس إِن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) ولا تكتفي الآية بنفي آلهة أُولئك، بل تثبت كل العبادة لله سبحانه زيادة في التأكيد فتقول: (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم).
ومن أجل تأكيد أكبر تضيف: أنّ هذه ليست إِرادتي فقط، بل (وأمرت أن أكون من المؤمنين).
إِنّ التأكيد هنا على مسألة قبض الروح فقط من بين صفات الله، أمّا لأنّ الإِنسان إِذا كان يشك في كل شيء فإِنّه لا يستطيع أن يشك في الموت، أو لأنّ هذه الآية أرادت أن تنبه هؤلاء إِلى مسألة العذاب والعقوبات المهلكة التي أشير إِليها في الآيات السابقة، ولوحت بالتهديد بالغضب الإِلهي.
وبعد أن بيّنت الآية العقيدة الحقة في نفي الشرك وعبادة الأوثان بكل صراحة وقوة، تطرقت إِلى بيان دليل ذلك، دليل من الفطرة.
ودليل من العقل:
(وأن أقم وجهك للدين حنيفاً) وهنا أيضاً لم يكتف بجانب الإِثبات، بل نفي الطرف المقابل لتأكيد الامر، فقالت الآية: (ولا تكونن من المشركين).
"الحنيف" - كما قلنا سابقاً - تعني: الشخص الذي يميل ويتحول عن طريق الإِنحراف إِلى جادة الصواب والإِستقامة، وبتعبير آخر: يغض الطرف عن المذاهب والأفكار المنحرفة، ويتوجه إِلى دين الله المستقيم، ذلك الدين الموافق للفطرة موافقة كاملة ومستقيمة.
وبناء على هذا فإِنّ هذا التعبير يستبطن الإِشارة إِلى كون التوحيد فطرياً في الأعماق، لأنّ الإِنحراف شيء خلاف الفطرة، (فتدبّر).
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ أي أهل مكة ﴿إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي﴾ وحقيقته ﴿فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ﴾ أي الأصنام ﴿وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ بقبض أرواحكم وفيه تهديد ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ به.