أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس(1) المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
وفي هذه الآيات الأخيرة الثلاث يأمر شعيب هؤلاء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات موجزة، ويتصور بعض المفسّرين أن هذه العبارات بعضها يؤكّد بعضاً، إلاّ أن التدقيق فيها يدلّ على أن هذه الأوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة، أو بتعبير آخر: هي أربعة أوامر ونتيجة كليّة!...
ولكي يتّضح هذه الإختلاف أو التفاوت، فإنه يلزم الإلتفات إلى هذه الحقيقة... وهي أن قوم شعيب (أهل مدين وأصحاب الأيكة) كانوا مستقرين في منطقة حساسة تجارية، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام، أو العائدة من الشام إلى الحجاز، ومن مناطق أُخَر.
ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى أُمور كثيرة... وطالما يسيءُ أهل المنطقة الإستفادة من هذه الحالة، فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن... ويبيعون عليهم المستلزمات بأعلى ثمن "وينبغي الإلتفات إلى أن أكثر المعاملات في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضة سلعة بسلعة"...
وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرّفوها بأحسن التعاريف، وعندما يزنون لأنفسهم يستوفون الوزن، وإذا كالوا الآخرين أو وزنوا لهم لا يهتمون بالميزان الصحيح والإستيفاء السليم، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه الأُمور على كل حال ومضطر إليها، فلا بد له من أن يقبلها ويسكت عليها!...
وبغض النظر عن القوافل التي تمرّ عليهم، فإنّ أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤلاء المطففين، وليسوا بأحس حظاً من أصحاب القوافل أيضاً.
فقيمة المتاع سواءً كان الجنس يراد بيعهُ أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلاء. والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم، فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله!
ومع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً، نعود الآن إلى تعابير الآيات المختلفة... فتارة يقول شعيب لقومه: أوفوا الكيل، وفي مكان آخر يقول: زنوا بالقسطاس المستقيم، ونعرف أن تقويم الأجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن، فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتماماً خاصاً... لمزيد التأكيد على أن لا يبخسوا الناس أشياءهم...
ثمّ إنّ التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى، فتارةً يكون الميزان صحيحاً إلاّ صاحبه لا يؤدي حقه، وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان... فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب، وقد جاءت الإشارات في الآيات الآنفة إلى جميع هذه الأُمور.
﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ﴾ أتموه ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ﴾ الناقصين.