النّزول
تغيير القبلة أثار بين النّاس ضجة، وخاصة بين اليهود والنصارى الذين كانوا يرون في اتّباع المسلمين لقبلتهم سند افتخار لهم.
القرآن الكريم رد في الآية 142 من هذه السّورة على اعتراضاتهم في قوله تعالى: ﴿سيقول السفهاء... ﴾ وفي هذه الآية يطرح المعيار الصحيح لتقييم المجموعة البشرية.
التّفسير
أساس البّر:
ذكرنا في تفسير آيات تغيير القبلة، أن النصارى كانوا يتجهون في عباداتهم نحو الشرق واليهود نحو الغرب، وقرر الله الكعبة قبلة للمسلمين، وكانت في اتجاه الجنوب وسطاً بين الإِتجاهين.
ومرّ بنا الحديث عن الضّجة التي أثيرت بين اعداء الإسلام والمسلمين الجدد بشأن تغيير القبلة.
الآية أعلاه تخاطب هؤلاء وتقول: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾.
«البرّ» في الاصل التوسّع، ثم أُطلق على أنواع الإِحسان، لأن الإِنسان بالإحسان يخرج من إطار ذاته ليتسع ويصل عطاؤه إلى الآخرين.
و«البّر» بفتح الباء، فاعل البرّ، وهي في الأصل الصحراء والمكان الفسيح، وأطلقت على المحسن بنفس اللحاظ السابق.
ثمّ يبين القرآن أهم أصول البّر والإحسان وهي ستة، فيقول: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾.
هذا هو الأساس الأوّل: الإِيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من قبل الله، والمنهج الإِلهي، والنبيّين الدعاة إلى هذا المنهج.
والإِيمان بهذه الأُمور يُضيء وجود الإِنسان، ويخلق فيه الدافع القوي للحركة على طريق البناء والأعمال الصالحة.
جدير بالذكر أن الآية تقول: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ...﴾ ولم تقل ولكن البَرَّ بفتح الباء، أو البار بصيغة اسم الفاعل.
أي أن الآية استعملت المصدر بدل الوصف، وهذا يفيد بيان أعلى درجات التأكيد في اللغة العربية.
فحين يقول أحد: عليٌ (عليه السلام) هو العدل في عالم الإنسانية.
فهو يقصد أنه عادل للغاية وأن العدالة قد ملأت وجوده بحيث أن من يراه فكأنما لايرى سوى العدالة متجسدة.
وحين يقول: بني أُمية ذلّ الإِسلام، فيعني أن كل وجودهم ذلّ للإِسلام.
ثم تذكر الآية الإِنفاق بعد الإِيمان، وتقول: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾.
إنفاق المال ليس بالعمل اليسير على الجميع، خاصة إذا بلغ الإِنفاق درجة الإِيثار، لأن حبّ المال موجود بدرجات متفاوتة في كل القلوب.
وعبارة ﴿عَلى حُبِّهِ﴾ إشارة إلى هذه الحقيقة.
هؤلاء يندفعون للإِنفاق رغم هذا الحبّ للمال من أجل رضا الله سبحانه.
الآية عددت ستة أصناف من المحتاجين إلى المال:
ذكرت بالدرجة الاُولى ذوي القربى، ثم اليتامى والمساكين، ثم أُولئك الذين اعترتهم الحاجة مؤقتاً كابن السبيل وهو المسافر المحتاج، ثم تذكر الآية بعد ذلك السائلين إشارة إلى أنّ المحتاجين ليسوا جميعاً أهل سؤال.
فقد يكونون متعففين لا تبدو على سيمائهم الحاجة.
لكنهم في الواقع محتاجون، وعن هؤلاء قال القرآن في موضع آخر: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفّفِ﴾.
ثم تشير الاية إلى الرقيق الذين يتعطشون إلى الحرية والاستقلال بالرغم من عدم احتياجهم المادي وتأمين نفقتهم على عهدة مالكيهم.
والأصل الثالث من أصول البرّ: إقامة الصلاة: ﴿وَأَقَامَ الصَّلاَةَ﴾.
والصلاة إن أدّاها الفرد بشروطها وحدودها، وباخلاص وخضوع، تصده عن كل ذنب وتدفعه نحو كل سعادة وخير.
والأصل الرابع: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.
فالآية سبق أن ذكرت الإِنفاق المستحب، وهنا تذكر الإِنفاق الواجب.
بعض النّاس يكثر من المستحبات في الإنفاق ويتساهل في الواجب، وبعضهم يلتزم بالواجب فقط ولا ينفق درهماً في إيثار.
والمحسنون الحقيقيون هم الذين ينفقون في المجالين معاً.
يلفت النظر أن الآية ذكرت عبارة ﴿عَلى حُبِّهِ﴾ بعد الإِنفاق المستحب، ولم تذكر ذلك مع الزكاة الواجبة.
ولعل ذلك يعود إلى أن أداء الحقوق الواجبة وظيفة إلهية وإجتماعية، والفقراء - في منطق الإِسلام - شركاء في أموال الأغنياء، ودفع المال للشريك لا يحتاج إلى العبارة المذكورة.
الخامس من الأُصول: الوفاء بالعهد: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الإِجتماعية.
وترك الوفاء بالعهد من الذنوب التي تزلزل الثقة وتوهن عرى العلاقات الإِجتماعية، من هنا وجب على المسلم أن يلتزم بثلاثة أُمور تجاه المسلم والكافر، وإزاء البرّ والفاجر، وهي: الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، واحترام الوالدين.
الأساس السادس والأخير من أُسس البرّ في نظر الإِسلام: الصبر ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ(حال الفقر والمسكنة) وَالضَّرَّاءِ (حال المرض) وَحِينَ الْبَأْسِ (حال القتال مع الاعداء) ﴾ .
ثم تؤكد الآية على أهمية الأُسس الستة وعلى عظمة من يتجلّى بها، فتقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.
صدقهم يتجلّى في انطباق أعمالهم وسلوكهم مع إيمانهم ومعتقداتهم، وتتجلى تقواهم في إلتزامهم بواجبهم تجاه الله وتجاه المحتاجين والمحرومين وكل المجتمع الإِنساني.
والملفت للنظر أن الصفات الست المذكورة تشمل الاُصول الإِعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية.
فتضمنت الآية كل أُسس العقيدة، وكذلك أشارت إلى الإِنفاق والصلاة والزكاة بين المناهج العملية، وهي أُسس ارتباط المخلوق بالخالق، والمخلوق بالمخلوق.
وفي الحقل الأخلاقي ركزت الآية على الوفاء بالعهد، وعلى الصبر والإِستقامة والثبات، وهي أساس كل الصفات الأخلاقية السامية.
﴿لَّيْسَ الْبِرَّ﴾ الطاعة ﴿أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ﴾ بصلاتكم ﴿قِبَلَ الْمَشْرِقِ﴾ أيها النصارى ﴿وَالْمَغْرِبِ﴾ أيها اليهود ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ بر ﴿مَنْ آمَنَ﴾ ولكن ذا البر من آمن ﴿بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ صدق بالمبدإ والمعاد ﴿وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ﴾ جنسه أو القرآن ﴿وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أي مع حب المال أو الإيتاء أو حب الله ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ للمعطي والرسول وهو مروي عن الصادق (عليه السلام) ﴿وَالْيَتَامَى﴾ المحاويج منهم ﴿وَالْمَسَاكِينَ﴾ من لم يجدوا نفقة السنة ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ المسافر المنقطع به سمي ابنه للملازمة وقيل الضيف ﴿وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ﴾ بحدودها ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ المفروضة ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ عطف على من آمن ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ نصب على المدح ﴿فِي الْبَأْسَاء﴾ مجاهدة النفس أو الفقر ﴿والضَّرَّاء﴾ الفقر والشدة أو المرض ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ عند شدة القتال ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في إيمانهم ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ لما أمروا باتقائه.