هناك أقوال بين المفسّرين، لكن الظاهر أنّ هذا الكلام تتمة لقول الأشهاد.. والآية التي بعدها تبيّن صفات الظالمين في ثلاث جمل:
الأُولى تقول: إِنّهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل الله (الذين يصدون عن سبيل الله) فمرّة عن طريق إِلقاء الشُبهة، ومرّة بالتهديد، وأحياناً عن طريق الإِغراء والطمع، وجميع هذه الأساليب ترجع إِلى أمر واحد، وهو الصدّ عن سبيل الله.
الثّانية تقول: إِنّهم يسعون في أن يُظهروا سبيل الله وطريقه المستقيم عِوَجاً (ويبغونها عوجاً) (2).
أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أو النقصان أو التّفسير بالرأي وإِخفاء الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم.
ولا يستطيع الناس وطلاب الحق السير في هذا الطريق.
والثّالثة تقول: إِنّهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة (وهم بالآخرة هم كافرون).
وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الإِنحرافات، لأنّ الإِيمان بتلك المحكمة الكبرى والعالم الوسيع بعد الموت يفعل الطاقات الايجابية الكامنة في النفس والروح.
ومن الطّريف أنّ جميع هذه المسائل تجتمع في مفهوم "الظلم" لأنّ المفهوم الواسع لهذه الكلمة يشمل كل انحراف وتغيير للموضع الواقعي للأشياء والأعمال والصفات والعقائد.
في الآية التالية يبيّن أنّ هؤلاء لا يستطيعون الهرب من عقاب الله في الأرض ولا أن يخرجوا من سلطانه (أُولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) كما أنّهم لا يجدون وليّاً وحامياً لهم غير الله (وما كان لهم من دون الله من أولياء).
وأخيراً يشير سبحانه إِلى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة (يضاعف لهم العذاب).
لماذا؟!
لأنّهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين، وفي الوقت ذاته كانوا يجرّون الآخرين إِلى هذا السبيل، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين، دون التخفيف عن الآخرين من أوزارهم (وليحملُنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) (3).
وهناك أخبار كثيرة في أن "من سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها".
وفي ختام الآية يبيّن الله سبحانه أساس شقاء هؤلاء بقوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وماكانوا يبصرون).
فهم في الحقيقة بإِهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتينوسيلتي السمع والبصر لدرك الحقائق، ضلّوا السبيل وأضلّوا سواهم أيضاً.. لأنّ الحق والحقيقة لا يدركان إلاّ بالسمع والبصر النافذ.
ومن الطريف هنا أنّنا نقرأ في الآية أنّهم ما كانوا يستطيعون السمع، أي استماع الحق، فهذا التعبير يشير إِلى الحالة الواقعية التي هم فيها، وهي أنّ استماع الحق كان عليهم صعباً وثقيلا إِلى درجة يُتصور فيها أنّهم فقدوا حاسة السمع، فلا قدرة لهم على السمع، وهذا التعبير ينسجم تماماً مع قولنا مثلا: إِنّ الشخص العاشق لا يستطيع أن يسمع كلاماً عن عيوب معشوقه!.. وبديهي أنّ عدم استطاعة دركهم الحقائق كانت نتيجة لجاجتهم الشديدة وعدائهم للحق والحقيقة، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية، لأنّهم هم السبب في ذلك، وهم الذى مهّدوا له، وكان بإِمكانهم أن يبعدوا عنهم هذه الحالة، لأنّ القدرة على السبب قدرة على المسبِّب.
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ دينه ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ يطلبون لها الانحراف ويصفونها به ﴿وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ حال وكرر هم تأكيدا.