لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية قصيرة العبارة وافرة المعنى، تجيب على كثير من الأسئلة المطروحة في حقل القصاص، ويقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الاَْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. هذه الآية بكلماتها العشر، تضع الإِطار العام - ببلاغة وفصاحة متناهيتين - للقصاص في الإِسلام، وتبين أن القصاص ليس انتقاماً، بل السبيل إلى ضمان حياة النّاس. إنه يضمن حياة المجتمع، إذ لو انعدم حكم القصاص، وتشجّع القتلة القساة على تعريض أرواح النّاس للخطر - كما هو الحال في البلدان التي ألغت حكم القصاص - لإِرتفعت إحصائيات القتل والجريمة بسرعة. وهو من جهة اُخرى، يصون حياة القاتل، بعد أن يصدّه إلى حدّ كبير عن إرتكاب جريمته. كما أنه يصون المجتمع بجعله قانون المماثلة من الإِنتقام والإِسراف في القتل على طريقة التقاليد الجاهلية التي تبيح قتل الكثير مقابل فرد واحد. وهو بذلك يصون حياة المجتمع. ومع الاخذ بنظر الاعتبار أن القصاص مشروط بعدم العفو عن القاتل فهذا الشرط نافذة أمل للحياة أيضاً بالنسبة للقاتل. وعبارة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ تحذير من كل عدوان لتكميل هذا الحكم الإِسلامي العادل الحكيم. بحوث 1 - القصاص والعفو تركيب عادل: النظرة الإِسلامية نظرة شمولية في كل المجالات، قائمة على احتساب جميع جوانب الأمر الذي تعالجه. مسألة صيانة دم الأبرياء عالجها الإِسلام بشكل دقيق بعيد عن كل إفراط أو تفريط، لا كما عالجتها الديانة اليهودية المحرّفة التي اعتمدت القصاص، ولا الديانة المسيحية المحرّفة التي ركزت على العفو... لأن في الاُولى خشونة وانتقاماً، وفي الثانية تشجيعاً على الإِجرام. ولو افترضنا أنّ القاتل والمقتول أخوان أو قريبان أو صديقان، فإن الإِجبار على القصاص يدخل لوعة اُخرى في قلب أولياء المقتول، خاصّة إذا كان هؤلاء من ذوي العواطف الإِنسانية المرهفة. وتحديد الحكم بالعفو يؤدي إلى تجرّؤ المجرمين وتشجيعهم. لذلك ذكرت الآية حكم القصاص باعتباره أساساً للحكم، ثم ذكرت إلى جانبه حكم العفو. بعبارة أوضح، إن لأولياء المقتول أن ينتخبوا أحد ثلاثة أحكام: 1 - القصاص. 2 - العفو دون أخذ الدية. 3 - العفو مع أخذ الدية (وفي هذه الحالة تشترط موافقة القاتل أيضاً). 2 - هل يتعارض القصاص مع العقل والعواطف الإِنسانية؟ ثمّة فئة يحلو لها أن توجه إلى الإِسلام - دون تفكير - إعتراضات وكثير شبهات، خاصة بالنسبة لمسألة القصاص. يقول: 1 - الجريمة لا تزيد على قتل إنسان واحد، والقصاص يؤدّي إلى تكرار هذا العمل الشنيع. 2 - القصاص ينمّ عن روح الإِنتقام والتشفّي والقسوة، ويجب إزالة هذه الروح عن طريق التربية، بينما يعمّق القصاص هذه الروح. 3 - القتل لا يصدر عن إنسان سالم، لابدّ أن يكون القاتل مصاباً بمرض نفسي، ويجب علاجه، والقصاص ليس بعلاج. 4 - قوانين النظام الإِجتماعي يجب أن تتطور مع تطور المجتمع. ولا يمكن لقانون سُنّ قبل أربعة عشر قرناً أن يطبق اليوم. 5 - من الأفضل الإِستفادة من القاتل بتشغيله في معسكرات العمل الإِجباري، وبذلك نستفيد من طاقاته ونصون المجتمع من شروره. هذا ملخص ما يوجه للقصاص من اعتراضات. الجواب: لو أمعنا النظر في آيات القصاص، لرأينا فيها الجواب على كل هذه الإِعتراضات: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الاَْلْبَابِ﴾. فالحياة الإِجتماعية لا يمكن أن تطوي مسيرتها الحياتية التكاملية، دون إقتلاع العوامل المضرّة الهدامة فيها. ولما كان القصاص في هذه المواضع يضمن استمرار الحياة والبقاء، فإن الشعور بضرورة القصاص أودع على شكل غريزة في وجود الإِنسان. أنظمة الطب والزراعة والرعي قائمة على أساس هذا الأصل العقلي، وهو إزالة الموجودات المضرة الخطرة. فنرى الطب يجيز قطع العضو الفاسد إذا شكل خطورة على بقية أعضاء الجسد، وتقتلع النباتات والأغصان المضرة من أجل استمرار نمو النباتات المفيدة بشكل صحيح. يأُولئك الذين يرون في الإِقتصاص من القاتل قت لشخص آخر، ينظرون إلى المسألة من منظار فردي. ولو أخذوا بنظر الإِعتبار مصلحة المجتمع، وعلموا ما في القصاص من دور في حفظ سائر أفراد المجتمع وتربيتهم، لأعادوا النظر في أقوالهم. إزالة مثل هؤلاء الأفراد الخطرين المضرين من المجتمع، كقطع العضو الفاسد من جسد الإِنسان، وكقطع الغصن المضر من الشجرة. ولا أحد يعترض على قطع ذلك العضو وهذا الغصن. هذا بشأن الإِعتراض الأول. وبالنسبة إلى الإِعتراض الثاني، لابدّ من الإِلتفات إلى أن تشريع القصاص لا إرتباط له بمسألة الإِنتقام. لأن الهدف من الإِنتقام إطفاء نار الغضب المتأججة لمسألة شخصية، بينما القصاص يستهدف الحيلولة دون استمرار الظلم في المجتمع، وحماية سائر الأبرياء. وبشأن الإِعتراض الثالث القائل إن القاتل مريض نفسياً، ولا تصدر هذه الجريمة من إنسان طبيعي، لابدّ أن نقول: هذا الكلام صحيح في بعض المواضع، والإِسلام لم يشرع حكم القصاص للقاتل المجنون وأمثاله، ولكن لا يمكن اعتبار المرض عذراً لكل قاتل، إذ لا يخفي ما يجرّ إليه ذلك من فساد، ومن تشجيع القتلة على إرتكاب جرائمهم. ولو صح هذا الإِستدلال بالنسبة للقاتل لصح أيضاً بشأن جميع المعتدين على حقوق الآخرين. لأن الإِنسان العاقل المعتدل لا يعتدي إطلاقاً على الآخرين. وبذلك يجب حذف كل القوانين الجزائية، ويجب إرسال المعتدين والمجرمين إلى مستشفيات الأمراض النّفسية بدل السجون. أمّا ادعاء عدم إمكان قبول قانون القصاص اليوم بسبب تطور المجتمع، وبسبب قدم هذا القانون، فمردود أمام إحصائيات الجرائم الفظيعة الي ترتكب في عصرنا الراهن، وأمام التجاوزات الوحشية التي تنتشر في بقاع مختلفة من عالمنا بسبب الحروب وغير الحروب. ولو أُتيح للبشرية أن تقيم مجتمعاً إنسانياً متطوراً تطوراً حقيقياً، فإن مثل هذا المجتمع يستطيع أن يلجأ إلى العفو بدل القصاص، فقد أقرّ الإِسلام ذلك، ومن المؤكد أن المجتمع المتطور في آفاقه الإِنسانية سيفضّل عفو القاتل. أمّا في مجتمعاتنا المعاصرة حيث ترتكب فيها أفظع الجرائم تحت عناوين مختلفة، فإن إلغاء قانون القصاص لا يزيد في جرائم المجتمع إلاّ اتساعاً وضراوة. وحول حفظ القتلة في السجون، فإن هذه العملية لا تحقق هدف الإِسلام من القصاص. فالقصاص - كما ذكرنا - يستهدف حفظ حياة المجتمع، والحيلولة دون تكرار القتل والجريمة. السجون وأمثالها لا تستطيع أن تحقق هذا الهدف (خاصة السجون الحالية التي هي أفضل من أكثر بيوت المجرمين). ولا أدل على ذلك من ارتفاع إحصائيات جرائم القتل خلال فترة قصيرة، في البلدان التي ألغت حكم الإِعدام. ولو كانت أحكام السجن عرضة للتقلّص بسبب أحكام العفو - كما هو سائد اليوم - فإن المجرمين يعمدون إلى إرتكاب جرائمهم دون تخوّف أو تردّد. 3 - هل انتقص قانون القصاص المرأة؟ قد يظن البعض أن قانون القصاص الإسلامي قد انتقص المرأة حين قرّر أن «الرجل» لا يقتل «بالمرأة»، أي إن الرجل - قاتل المرأة - لا يقتص منه. وليس الأمر كذلك، مفهوم الآية لا يعني عدم جواز قتل الرجل بالمرأة، بل - كما هو مبين في كتب الفقه - يجوز لأولياء المقتولة أن يطلبوا القصاص من الرجل القاتل، بشرط أن يدفعوا نصف ديته. بعبارة اُخرى: المقصود من عدم قصاص الرجل بالمرأة، هو القصاص دون شرط، أمّا إذا دُفعت نصف ديته فيجوز قتله. واضح أن دفع نصف دية الرجل القاتل، لا يعني إنتقاص الإِسلام للمرأة، بل يعني جبران الضرر المالي الذي يصيب عائلة الرجل القاتل بعد قتله، (تأمل بدقّة). ولمزيد من التوضيح نقول: الرجال يتحملون غالباً مسؤوليات إعالة الأُسرة، ويؤمنون نفقاتها الإِقتصادية، ولا يخفى الفرق بين أثر غياب الرجل وغياب المرأة على العائلة اقتصادياً، ولو لم يراع هذا الفرق لأُصيبت عائلة المقتص منه بأضرار مالية، ولوقعت في حرج اقتصادي، ودفع نصف الدية يحول دون تزلزل تلك العائلة اقتصادياً. ولا يسمح الإِسلام أن يتعرض أفراد أُسرة لخطر اقتصادي وتغمط حقوقهم تحت شعار «المساواة». قد تكون امرأة في أُسرتها عضوة فعالة اقتصادياً أكثر من الرجل، ولكن الأحكام والقوانين لا تقوم على أساس الحالات الإِستثنائية، بل على أساس الوضع العام، وفي هذه الحالة يجب أن نقارن كل الرجال بكل النساء (تأمل بدقّة). 4 - يلفت النظر أيضاً في الآية عبارة ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾، فالقرآن يركز على مفهوم الأُخوة بين المسلمين، حتى يطلق هذا التعبير على القاتل. وبهذا التعبير يضرب القرآن على وتر العاطفة الأخوية بين المسلمين، كي يشجع أولياء المقتول على العفو!! هذا طبعاً بالنسبة للقاتل الذي انزلق في هاوية الجريمة في ظروف عصبية خاصة، وندم بذلك على فعلته. أمّا المجرمون الذي يفخرون بجرائمهم، ولا يشعرون بندم على ما ارتكبوه فلا يستحقون اسم الأخ ولا العفو. ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ لأن من علم أن القصاص واجب لا يجترىء على القتل ﴿يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾ نودوا للتأمل في حكمة القصاص ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ القتل خوفا من القصاص.