وفي آخر الآية - محل البحث ورد كلام بمثابة الجملة المعترضة ليؤكّد المواضيع التي بحثت قصّة نوح في الآيات السابقة واللاحقة، فتبيّن الآية أن الأعداء يقولون: إِنّ هذا الموضوع صاغه "محمّد" من قبل نفسه ونسبه إلى الله (أم يقولون افتراه).
ففي جواب ذلك قُلْ يا رسول الله: إِن كان ذلك من عندي ونسبته إِلى الله فذنبه عليّ (قل إِن افتريته فعلي أجرامي) ولكني بريء من ذنوبكم (وأنا بريءٌ ممّا تجرمون).
ملاحظات
1 - "الإِجرام" مأخوذ من مادة "جرم" على وزن "جهل" وكما أشرنا إِلى ذلك - سابقاً - فإِنّ معناه قطف الثمرة غير الناضجة، ثمّ أُطلقت على كل ما يحدث من عمل سيء، وتطلق على من يحث الآخر على الذنب أنّه أجرم، وحيث أن الإِنسان له إرتباط في ذاته وفطرته مع العفاف والنقاء، فإِنّ الإِقدام على الذنوب يفصل هذا الإِرتباط الإِلهي منه.
2 - إحتمل بعض المفسّرين أنّ الآية الأخيرة ليست ناظرة الى نبي الإِسلام، بل ترتبط بنوح (ع) نفسه، لأنّ جميع هذه الآيات تتحدث عن نوح (ع) ، والآيات المقبلة تتحدث عنه أيضاً، فمن الأنسب أن تكون هذه الآية في نوح (ع) ، والجملة الإِعتراضية خلاف الظاهر، ولكن مع ملاحظة مايلي:
أّولا: إِنّ شبيه هذا التعبير وارد في سورة الأحقاف الآية (رقم 8) في نبي الإِسلام.
ثانياً: جميع ما جاء في نوح (ع) في هذه الآيات كان بصيغة الغائب، ولكن الآية - محل البحث - جاءت بصيغة المخاطب، ومسألة الإِلتفات - أي الإِنتقال من ضمير الغيبة إِلى المخاطب - خلاف الظاهر، وإِذا أردنا أن تكون الآية في نوح (ع) فإِنّ جملة "يقولون" بصيغة المضارع، وجملة "قل" بصيغة الأمر، يحتاجان كليهما إِلى التقدير!
ثالثاً: هناك حديث في تفسير البرهان في ذيل هذه الآية عن الإِمامين الصادقين الباقر والصادق (عليهما السلام) يبيّن أنّ الآية المتقدمة نزلت في كفار مكّة.
من مجموع هذه الدلائل نرى أن الآية تتعلق بنبي الإِسلام، والتهم التي وجهت إِليه كان من قبل كفار مكّة، وجوابه عليهم.
وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الجملة الإِعتراضية ليست كلاماً لا علاقة له بأصل القول، بل غالباً ما تأتي الجمل الإِعتراضية لتوكّد بمحتواها مفاد الكلام وتؤيده، وإِنما ينقطع إِرتباط الكلام أحياناً لتخف على المخاطب رتابة الإِيقاع وليبعث الجدة واللطافة في روح الكلام، وبالطبع فإِنّ الجملة الإِعتراضية لايمكن أن تكون أجنبية عن الكلام بتمام المعنى، وإلاّ فتكون على خلاف البلاغة والفصاحة، في حين أنّنا نجد دائماً في الكلمات البليغة والفصيحة جملا إِعتراضية.
3 - من الممكن أن يرد هذا الإِشكال عند مطالعة الاية الأخيرة، وهو قول النّبي (ص) أو نوح (ع) للكفار: إن يكن هذا الكلام افتراء فإثمه علي.
ترى هل يعني قبول مسؤولية الإِثم "الإِفتراء" أنّ كلام الكفار حقاً ومطابقاً للواقع، وعلى الناس أن يتابعوه ويطيعوه! ؟
ولكن مع تدقيق النظر في الآيات السابقة نحصل على جواب هذا الإِشكال، وهو أنّ الأنبياء في الحقيقة أرادوا القول: إِنّ كلامنا يقوم على الإِستدلالات العقلية، فعلى فرض المحال أنّنا لم نكن مبعوثين من قبل الله فإِثم ذلك على أنفسنا، وهذا بغض النظر عن الإِستدلالات العقلية، ولكنّكم أيّها الكفار ستبقون بمخالفتكم صرعى الإِثم دائماً، الإِثم المستمر والباقي "لاحظ كلمة تجرمون التي جاءت بصيغة المضارع والتي تدل على الإِستمرار "فتأمل جيداً".
﴿أَمْ﴾ بل ﴿يَقُولُونَ﴾ كفار مكة ﴿افْتَرَاهُ﴾ أي نبأ نوح ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ وباله ﴿وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ﴾ ونسبة الافتراء إلي.