لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير نهاية الحادث: قرأنا في الآيات السابقة - إِجمالا - أنّ الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجاً، أمّا المجرمون الجهلة فظناً منهم أنّه طوفان عادي فصعدوا إِلى أعالي القمم والمرتفعات، لكن الماء تجاوز تلك المرتفعات أيضاً وخفي تحت الماء كل شيء، وأخذت تلوح للعيون أجساد الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح الماء. وكان نوح (ع) قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في كل صوب، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماماً (من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة) وعلى رواية (من عاشر شهر رجب حتى عاشر محرم) وطافت السفينة نقاطاً متعددة من الأرض، وطبقاً لما جاء في بعض الرّوايات أنّها سارت على أرض مكّة وحول الكعبة. وأخيراً صدر الأمر الإِلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إِلى حالتها الطبيعية، والآية - محل البحث - تبيّن هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدّاً، وفي الوقت ذاته بليغة وأخّاذة، وقد جاءت الآية في جمل ست: 1 - (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء. 2 - (ويا سماء اقلعي) وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري. 3 - (وغيض الماء) ونزل الماء في جوف الأرض. 4 - (وقضي الأمر) انتهى حكم الله. 5 - (واستوت على الجودي) واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي. 6 - (وقيل بعداً للقوم الظالمين) عندئذ لُعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة الله. كم هي رائعة هذه التعابير التي وردت في الآية المتقدمة، وهي في الوقت ذاته وجيزة وتفور بالحياة والجمال الاخّاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب: إِن هذه الآية تعدُّ أفصح آيات القرآن وأبلغها وإِن كانت آياته جميعاً في غاية البلاغة والفصاحة. الشاهد على هذا الكلام هو أنّنا نقراً في روايات التاريخ الإِسلامي أنّ جماعة من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته، فهيأ مريدوهم الطعام والشراب لهم لفترة أربعين يوماً، مثل لب الحنطة الخالص والخمر المعتق ولحم الغنم - لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيهاً لها، ولكنّهم حين بلغوا هذه الآية - محل البعث - هزتهم بحيث نظر بعضهم إِلى بعض وقال كل للآخر: هذا كلام لا يشبهه كلام آخر، وهو أساساً لا يشبه كلام المخلوقين، قالوا ذلك وانصرفوا عمّا اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين (1). أين يقع الجودي؟ ذهب كثير من المفسّرين أنّ الجودي الذي استقرت عليه السفينة - كما مرّ ذكره في الآية - جبل معروف قرب الموصل (2) وقال آخرون: هو جبل في حدود الشام أو شمال العراق أو قرب "آمد" وفي كتاب الراغب الأصفهاني (المفردات) أنّه جبل بين الموصل والجزيرة، وهي (جزيرة ابن عمر في شمال الموصل). ولا يبعد أن تكون جميعها بمعنى واحد، "فالموصل" و"الجزيرة" و"آمد" جميعها في الجزء الشمالي من العراق وقرب الشام. وقال آخرون: يحتمل أن يكون المقصود من الجودي كل جبل صلب أو أرض صلبة وقوية، ومَعنى الآية حسب هذا التّفسير أن السفينة استقرت على أرض صلبة غير رخوة لينزل ركابها على الأرض، ولكن المشهور والمعروف هو المعنى الأوّل. وفي كتاب "أعلام القرآن" تحقيق وتتبع حول جبل الجودي نورده بما يلي: "الجودي" اسم جبل استقرت سفينة نوح واستوت على قمته، وقد ورد اسمه في الآية (44) في سورة هود وهو قريب من المضمون الوارد في التوراة مع ما يتعلق به من أُمور أُخرى، وهناك ثلاثة أقوال بالنسبة إلى محل جبل الجودي: 1 - بناءً على قول "الاصفهاني" فإنّ جبل الجودي في الجزيرة العربية، وهو واحد من جبلين واقعين في منطقة نفوذ قبيلة (طيء). 2 - إِنّ الجودي هو سلسلة جبال "كاردين" الواقعة شمال شرقي جزيرة (ابن عمر) في شرق دجلة قرب الموصل؟ ويسمّيها الأكراد (كاردو) بلهجتهم، ويسميها اليونانيون (جوردي) ويسمّيها العرب "الجودي". في "الترگوم" وهي الترجمة الكلدانية لـ "التوراة" وكذلك الترجمة السريانية لـ "التوراة": إِنّ المكان الذي استقرت عليه سفينة نوح هو قلعة جبل الأكراد، أي "كاردين". والجغرافيون العرب يطبقون الجودي المذكور في القرآن على هذه المنطقة - المشار إِليها آنفاً - ويقولون إِنّ قطع السفينة كان موجودة على قمة هذا الجبل حتى زمان بني العباس وكان المشركون يزورونها.. وفي القصص البابلية قصّة شبيهة بطوفان نوح (ع) (ملحمة گيلگامش) ويمكن - إضافة إلى ذلك - احتمال طغيان دجلة في تلك الفترة، وسكنة تلك المنطقة هم المبتلون بالطوفان. وفي جبل الجودي كتيبة آشورية موسومة بكتيبة "ميسر" وقد لوحظ في هذه الكتيبة اسم "آرارتو". 3 - وفي الترجمة الحالية لـ "التوراة": إِن محل استقرار سفينة نوح في جبال "آرارات" وهو جبل "ماسيس" الواقع في "أرمنستان" وقد ضبط صاحب قاموس الكتاب المقدّس معناه الأولي، فكان المعنى "ملعون" وقال: بناءً على ما جاء في الرّوايات فإِنّ سفينة نوح استقرّت على قمة هذا الجبل، ويسميّه العرب بـ "الجودي" ويسمّيه الإِيرانيون بـ "جبل نوح" ويسميه الأتراك بـ "كرداغ" بمعنى الجبل المنحدر، وهو واقع قرب "أرس". وحتى القرن الخامس لم يعرف الأرامنة جبلا في أرمنستان باسم جبل "الجودي" ولكن منذ ذلك الوقت تسرب هذا المفهوم الى علماء الأرمن وقد يكون السبب هو اشتباه المترجمين للتوراة الذين ترجموا جبل "الأكراد" إلى "أرارات".. ولعل ممّا سوّغ هذا التصوّر أنّ الآشوريين أطلقوا على الجبال الواقعة شمال بحيرة "وان" وجنوبها اسم "آرارات" أو "آراتو". يقال أنّ النّبي نوحاً بنى مسجداً على قمة جبل الجودي بعد ما غاض الطوفان، ويقول الأرامنة: إِنّ في سفح جبل الجادي "الجودي" قرية تدعى ثمانين أو ثمان، وهي أوّل محلِ نزل فيه أصحاب نوح (ع) (3). ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ﴾ اشربيه فشربته ﴿وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي﴾ أمسكي عن المطر فأمسكت ﴿وَغِيضَ الْمَاء﴾ قل وغار ﴿وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ وتم بهلاك من هلك ونجاة من نجا ﴿وَاسْتَوَتْ﴾ استقرت السفينة ﴿عَلَى الْجُودِيِّ﴾ جبل بالموصل ﴿وَقِيلَ بُعْداً﴾ هلاكا ﴿لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ قيل والآية حوت البلاغة بحسن نظمها وجزالة لفظها وبيان الحال بإيجاز بلا إخلال وبنيت الأفعال للمفعول لتعظيم الفاعل ويقينه إذ لا يقدر على هذه الأمور سوى الله.