التّفسير
هبوط نوح بسلام:
هاتان الآيتان هما نهاية الآيات التي تتحدث عمّا جاء في نوح وقصّته المليئة بالدروس والعبر في سورة هود، وفيهما إشارة إلى هبوط نوح (عليه السلام) من سفينته وعودة الحياة والعيش الطبيعي على الأرض.
يقول القرآن في الآية الأُولى من هاتين الآيتين: (قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أُمم ممن معك).
لا شك أنّ الطوفان كان قد دمر كل آثار الحياة.. فالأراضي العامرة والمراتع الخُضر والغابات النضرة كلّها أُبيدت، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء، لكن الله سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة إزاء البركات الإلهية والسلامة وأن كل ذلك سيكون مهيّأً وموفّراً لهم فلا ينبغي الحزن على شيء..
مضافاً إلى ذلك فقد يأتي الحزن والخوف من شيء آخر وهو الخوف على السلامة والصحة بسبب المستنقعات والمياه الآسنة الباقية من آثار الطوفان التي تهدد حياتهم بالخطر، فالله سبحانه يطمئن نوحاً وأصحابه أيضاً أنّه لا خطر يهددهم، وأن الذي أرسل الطوفان لهلاك الطغاة قادر على أن يوفر محيطاً سالماً مليئاً بالخيرات والبركات للمؤمنين كذلك.
هذه الجملة القصيرة تشعرنا وتفهمنا أن القرآن يهتم بالمسائل الدقيقة للغاية، ويعكسها في عبارات مضغوطة شائقة وأخّاذة!.
كلمة "أُمم" هي جمع "أمة" وهذا التعبير يدل على أن مع نوح طوائف من عباد الله وخلقه، كما يدل هذا التعبير على أنّ الأفراد الذين هم مع نوح كل منهم سيكون سبباً لوجود قبيلة وأُمّة كبيرة، أو أنّه فِعْلاً كان مع نوح أفراد من قبائل وأُمم متعددة فيشكل مجموعهم أُمماً أيضاً..
ويرد هذا الإحتمال أيضاً، وهو أن الأُمم التي كانت مع نوح تشمل مجموعة الحيوانات المتعددة، لأنّ القرآن أطلق لفظ الأُمّة عليها أيضاً في مكان آخر من آياته، فنحن نقرأ في سورة الأنعام الآية (38) (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أُمم أمثالكم).
فيتّضح بهذا أنّ نوحاً وأصحابه هبطوا إلى الأرض بسلام ليجدوا بركات الله وليطمئنوا بالحياة الهانئة، كذلك الحال بالنسبة إلى الحيوانات التي كانت معهم في السفينة وهبطت إلى الأرض، فإنّ لطف الله شملها جميعاً كذلك.
ثمّ يضيف القرآن مخاطباً نوحاً أنّه ستعقب الأُمم التي معك أُمم من نسلها، ولكن هذه الأُمم ستغتر وتغفل عن نعم الله فتنال جزاءها من الله (وأُمم سنمتعهم ثمّ يمسّهم منّا عذاب أليم).
فعلى هذا ليس انتخاب الأصلح من الناس أو إصلاح الناس عن طريق الطوفان هو آخر الإنتخاب وآخر الإصلاح، بل ستبلغ مرحلة جديدة من بني آدم أيضاً يصلون بها الذروة من الرُشد والتكامل، ولكن الناس قد يسيئون الإستفادة من حرية الإرادة ويستخدمونها في طريق الشرّ والفساد، فينالون جزاءهم في هذه الدنيا كما ينالون العذاب في الأُخرى.
الطريف في الآية أنّها تقول (سنمتعهم) ثمّ تتحدث عن العذاب مباشرة.
وفي ذلك إِشارة إِلى أن الإِستمتاع ينبغي أن يكون مدعاة للشكر والثناء على نعم الله وطاعته، ولكن غالباً ما يزيد المتنعمين طغياناً وكفراً ويقطعون العلاقة بينهم وبين الله.
وينقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية أنّ بعض المفسّرين يقول في قوله: "نمتعهم" الخ: هلك المستمتعون في الدنيا لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكرون إلاّ في الدنيا وعمارتها وملذاتها.
هذا الواقع يُرى جيداً في الدول المتنعمة والمتموّلة في هذا العالم، حيث يغوص أهلوها بالفساد فلا يفكرون في المستضعفين - فحسب ـ، بل نراهم يوماً بعد آخر يحاولون الكيد بهم وإِراقة دمائهم أكثر فأكثر، لذلك كثيراً ما يتفق أن ينزل الله عليهم الحروب والحوادث الأليمة التي تسلب النعم مؤقتاً لعلهم يفيقون من غفلتهم.
﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ﴾ أنزل من السفينة ﴿بِسَلاَمٍ﴾ بسلامة أو بتحية ﴿مِّنَّا وَبَركَاتٍ﴾ وخيرات ﴿عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ وهم المؤمنون بك ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ في الدنيا فيكفرون ﴿ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة بكفرهم.