التّفسير
قوم لوط وحياة الخزي:
مرّت في آيات من سورة الأعراف إشارة إلى شيء من مصير قوم لوط، وفسّرنا ذلك في محلّه، وهنا يتناول القرآن الكريم - وبمناسبة ما ذكره من قصص الأنبياء وأقوامهم وبما ورد في الآيات المتقدمة عن قصّة لوط وقومه - قسماً آخر من حياة هؤلاء القوم المنحرفين الضالين ليتابع بيان الهدف الأصلي ألا وهو سعادة المجتمع الإِنساني ونجاته بأسره.
يبيّن القرآن الكريم في هذا الصدد أوّلا... أنّه لما جاءت رسلنا لوطاً طار هلعاً وضاق بهم ذرعاً وأحاط به الهمّ من كل جانب (ولما جاءت رسلنا لوطاً سيىء بهم وضاق بهم ذرعاً).
وقد ورد في الرّوايات الإِسلامية أنّ لوطاً كان في مزرعَته حيث فوجىء بعدد من الشباب الوسيمين الصِباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النّزول عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في مدينته الملوّثة بالإِنحراف الجنسي من جهة أُخرى، كل ذلك أوجب له الهم... ومرّت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره، وتحدث مع نفسه (وقال هذا يوم عصيب).
لإحتمال الفضيحة والتورط في مشاكل عويصة كلمة (سيىء) مشتقّة من ساء، ومعناها عدم الإِرتياح وسوء الحال، و"الذرع" تعني "القلب" على قول، وقال آخرون: معناها "الخُلق" فعلى هذا يكون معنى (ضاق بهم ذرعاً) أنّ قلبه أصيب بتأثر شديد لهؤلاء الأضياف غير المدعوين في مثل هذه الظروف الصعبة.
ولكن بحسب ما ينقله "الفخر الرازي" في تفسيره عن "الأزهري" أنّ الذرع في هذه الموارد يعنى "الطاقة" وفي الأصل معناه الفاصلة بين اذرع البعير أثناء سيره.
وطبيعي حين يحمل البعير أكثر من طاقته فإنّه يضطر إلى تقريب خطواته وتقليل الفاصلة بين خطواته، وبهذه المناسبة وبالتدريج استعمل هذا المعنى في عدم الإِرتياح والإِستثقال من الحوادث.
ويستفاد من بعض كتب اللغة ككتاب (القاموس" أنّ هذا التعبير إِنّما يستعمل في شدة الحادثة بحيث يجد الإِنسان جميع الطرق بوجهه موصدة.
وكلمة "عصيب" مشتقّة من "العصب" على زنة "الكلب" ومعناه ربط الشىء بالآخر وشده شدّاً محكماً، وحيث أنّ الحوادث الصعبة تشدُّ الإِنسان وكأنّها تسلبه راحته فيظل مبلبل الأفكار سُمّيت "عصيبة" وتطلق العرب على الأيّام شديدة الحر أنّها عصيبة أيضاً.
وعلى كل حال، فإنّ لوطاً لم يجد بدأ من أن يأتي بضيوفه إلى البيت ويقوم بواجب الضيافة ولكنّه حدّثهم في الطريق - عدة مرّات - أنّ أهل هذه المدينة منحرفون وأشرار ليكونوا على حذر منهم.
ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ الله سبحانه أمر ملائكته أن لا يعذبوا قوم لوط حتى يعترف لوط عليهم ثلاث مرّات، ومعنى ذلك أنّه حتى في تنفيذ حكم الله بالنسبة لقوم ظالمين لابدّ من تحقق موازين عادلة في المحاكمة، وقد سمع رسل الله شهادة لوط في قومه ثلاث مرّات أثناء الطريق(1).
وورد في بعض الرّوايات أنّ لوطاً أخّر ضيوفه كثيراً حتى حلول الليل، فلعله يستطيع أن يحفظ ماء وجهه من شرور قومه، ويقوم بواجب الضيافة دون أن يُساء إلى أضيافه.
ولكن ما عسى أن يفعل الإِنسان إِذا كان عدوه داخل بيته، وكانت امرأة لوط امرأة كافرة وتساعد قومه الظالمين، وقد اطلعت على ورود هؤلاء الأضياف إلى بيتها، فصعدت إلى أعلى السطح وصفقت بيديها أوّلا، ثمّ بإشعال النّار وتصاعد الدخان أعلمت جماعة من هؤلاء القوم بأنّ طعمة دسمة قد وقعت في "الشِباك"(2).
﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ﴾ اغتم بسببهم إذ جاءوا في صورة غلمان أضياف ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ صدرا كناية عن فقد الحيلة في دفع المكروه ﴿وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ شديد.