لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
السّعادة الشّقاوة: أشير في الآيات المتقدّمة إلى مسألة القيامة واجتماع الناس كلّهم في تلك المحكمة العظيمة... وهذه الآيات - محل البحث - بيّنت زاوية من عواقب الناس ومصيرهم في ذلك اليوم، إِذ تقول الآيات أوّلا: (يوم يأتي لا تكلّم نفسٌ إِلاّ بإذنه). قد يُتصور أحياناً أنّ هذه الآية الدالة على تكلّم الناس في ذلك اليوم بإذن الله، تنافي الآيات التي تنفي التكلم هناك مطلقاً، كالآية (65) من سورة يس(اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)، وكالآية (35) من سورة المرسلات حيث نقرأ: (هذا يوم لا ينطقون). ولهذا السبب قال بعض المفسّرين الكبار: إِنّ التكلم هناك "يوم القيامة" لا مفهوم له أساساً. لأنّ التكلم وسيلة لكشف باطن الأشخاص وداخلهم، ولو كان لدينا إِحساس نستطيع أن نطّلع به على أفكار كل شخص لم يكن حاجة إلى التكلم أبداً. فعلى هذا لمّا كانت الأسرار وجميع الأشياء تنكشف "يوم القيامة" على حالة "الظهور والبروز" فلا معنى للتكلم أصلا. وببيان آخر: إِنّ الدار الآخرة دار مكافأة وجزاء لا دار عمل، وعلى هذا فلا معنى هناك لإِختيار الإِنسان وتكلمه حسب رغبته وإِرادته، بل هو الإِنسان وعمله وما يتعلق به، فلو أراد التكلم فلا يكون كلامه عن اختيار وارادة وحاكيا عمّا في ضميره كما في الدنيا، بل كل ما يتكلم به هناك فهو نوع من الإِنعكاس عن أعماله التي تظهر جليّة ذلك اليوم. أي أنّ الكلام هناك ليس كالكلام في الدنيا بحيث يستطيع الإِنسان على حسب ميله أن يتكلم صادقاً أو كاذباً. وعلى كل حال فإِنّ ذلك اليوم هو يوم كشف حقائق الأشياء وعودة الغيب إلى الشهود، ولا شبه له بهذه الدنيا. ولكن هذا الإِستنتاج من الآية المتقدّمة لا ينسجم مع ظاهر الآيات الأُخرى في القرآن، لأنّ القرآن يتحدث عن كثير من كلام المؤمنين والمجرمين والقادة والجبابرة وأتباعهم، والشيطان والمنخدعين به، وأهل النّار وأهل الجنّة، بحيث يدل على أنّ هناك كلاماً كالكلام في هذه الدنيا أيضاً. حتى أنّ بعض الآيات يستفاد منها أنّ قسماً من المجرمين يكذبون في ردهم على بعض الأسئلة، كما هو مذكور في سورة الأنعام الآيات (22) إلى (24) حيث تقول الآيات (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون * ثمّ لم تكن فتنتهم إِلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين * انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون). فعلى هذا، من المستحسن أن يجاب على السؤال المتعلق بتناقض ظواهر الآيات حول التكلم بما ذكره كثير من المفسّرين، وهو أنّ الناس يقطعون في ذلك اليوم مراحل مختلفة... وكل مرحلة لها خصوصياتها، ففي قسم من المراحل لا يُسألون أبداً حتى أنّ أفواههم يُختم عليها فلا يتكلمون، وإِنّما تنطق أعضاء أجسادهم التي حفظت آثار أعمالها بلغة من دون لسان، وفي المراحل الأُخرى يرفع الختم أو القفل عن أفواههم ويتكلمون بإذن الله فيعترفون بأخطائهم وذنوبهم ويلوم المخطئون بعضهم بعضاً، بل يحاولون أن يُلقوا تبعات أوزارهم على غيرهم. ويشار في نهاية الآية إلى تقسيم الناس جميعاً إلى طائفتين: طائفة محظوظة، وأُخرى بائسة تعيسة (فمنهم شقي وسعيد). و"السعيد" مشتق من مادة "السعادة" ومعناها توفر أسباب النعمة. و"الشقي" مشتق من مادة "الشقاء" ومعناه توفر أسباب البلاء والمحنة. فالسعداء - إِذاً - هم الصالحون الذين يتمتعون بأنواع النعم في الجنّة والأشقياء هم المسيئون الذين هم يتقلبون في أنواع العذاب والعقاب في جهنم. وليس هذا الشقاء - على كل حال - وتلك السعادة سوى نتيجة الأعمال والأقوال والنيّات التي سلفت من الإِنسان في الدنيا. والعجيب أن بعض المفسّرين يتخذون هذه الآية ذريعة لعقيدتهم الباطلة في مجال الجبر، في حين أنّ الآية ليس فيها أقلّ دليل على هذا المعنى، بل هي تتحدث عن السعداء والأشقياء في يوم القيامة وأنهم وصلوا جميعاً بأعمالهم إلى هذه المرحلة، ولعلهم توهموا هذه النتيجة من هذه الآية بالخلط بينها وبين بعض الأحاديث التي تتكلم عن شقاء الإِنسان أو سعادته وهو في بطن أُمّه قبل الولادة، ولكن هذه المسألة ليس هنا مجالها إِذ لها قصّة أُخرى وحديث طويل. ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ اليوم أو الجزاء ﴿لاَ تَكَلَّمُ﴾ تتكلم ﴿نَفْسٌ﴾ بما ينفع كشفاعة وغيرها ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ﴾ بسوء عمله ﴿وَسَعِيدٌ﴾ بحسن عمله.