لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
لذلك فإِنّهم لم يجيبوه عن الشقّ الأوّل من كلامه، بل أجابوه عن الشقّ الثّاني لأنّه كان مهماً وأساسياً بالنسبة لهم إِذ (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إِنا إِذاً لخاسرون). أي: أترانا موتى فلا ندافع عن أخينا، بل نتفرج على الذئب كيف يأكله! ثمّ إِضافةً إلى علاقة الأخوة التي تدفعنا للحفاظ على أخينا، ما عسى أن نقول للناس عنّا؟ هل ننتظر ليقال عنّا: إنّ جماعة أقوياء وفتية أشداء جلسوا وتفرجوا على الذئب وهو يفترس أخاهم! فهل نستطيع العيش بعد هذا مع الناس؟! لقدْ أجابوا أباهم بما تضمن قوله: (أخاف أن يأكه الذئب وأنتم عنه غافلون)ومشغولون بلعبكم، كيف يكون ذلك؟ والمسألة ليست بهذه البساطة... إِنّها الخسارة وذهاب ماء الوجه والخزي... إِذ كيف يمكن لواحد منّا أن يشغله اللعب فيغفل عن أخيه يوسف، لأنّه في مثل هذه الحال لا تبقى لنا قيمة ولا نصلح لأي عمل. ويبرز هنا سؤال مهم... وهو: لماذا أشار يعقوب إلى خطر الذئب من دون الأخطار الأُخرى؟! قال البعض: إِن صحراء كنعان - كانت - "صحراء مذئبة" ومن هنا كان الخوف من الذئب أكثر من غيره. وقال البعض الآخر: كان ذلك للرؤيا التي رآها يعقوب من قبل وهي أن ذئاباً هجمت على ولده يوسف. وهناك احتمال آخر هو أن يعقوب أجابهم بلسان الكناية، والمقصود من الذئاب في كلامه هم الأناس المتصفون بصفة الذئب إِخوة يوسف. وعلى كل حال فقد استطاع إِخوة يوسف بما أوتوا من الحيل، وبتحريك أحاسيس يوسف النقيّة وترغيبه إلى التنزه خارج المدينة، وربّما كان الأوّل مرّة يتاح ليوسف أن يحصل على مثل هذه الفرصة... استطاعوا أن يأخذوا يوسف معهم وأن يستسلم الأب لهذا الأمر فيوافق على طلبهم. بحوث وينبغي هنا الإِلتفات إلى عدة دروس حيّة تستلهم من هذه القصّة: 1 - مؤامرات الأعداء في ثياب الأصدقاء من الطبيعي أنّ الأعداء لا يدخلون الميادين - عند الهجوم - بصراحة ودون استتار أبداً. بل إِنّهم من أجل تفويت الفرصة على الطرف الآخر واستغفاله وسلبه كل وسائل الدفاع يسعون إلى إِخفاء عملهم تحت قناع جذاب إِنّ إِخوة يوسف أخفوا خطة هلاكه أو إِبعاده تحت غطاء أسمى الأحاسيس والعواطف الأخوية، هذه الأحاسيس التي كانت تحرك يوسف من جهة لأنّ يمضي معهم، وكانت عند أبيهم موضع قبول من جهة أُخرى أيضاً. وهذه هي الطريقة التي نواجهها في حياتنا اليوميّة على المدى الواسع، وما تلقيناه من ضربات قاسية من أعدائنا المخاتلين بثياب الأبرار في هذا المضمار غير قليل، ولها مظاهر متعددة، فمرةً بمظهر المساعدات الإِقتصادية، وأُخرى تحت ستار التبادل الثقافي، وثالثة في ثوب الدفاع عن حقوق البشر، ورابعة بأسلوب المعاهدات الدفاعية... كل تلك الأُمور كانت نتيجة أسوأ القرارات الإِستعمارية المذلّة للأُممِ المستضعفة والتي من ضمنها أُمتنا الإِسلاميّة. ولكن ومع هذه التجارب التاريخيّة ينبغي أن نكون حذرين للغاية وأن نعرف أعداءنا جيداً، فلا نحسن الظن بهذه الذئاب البشرية التي تريد أن تمتص دماءنا بما تظهره من عواطف وأحاسيس متلبسة بثياب المخلصين المتفانين فما زلنا نتذكر ما فعلتة الدول المتسلطة على العالم حيث أرسلت تحت ستار المساعدات الطبيّة إلى بعض الدول الإِفريقية المتضررة بالحرب أسلحة وعتاد أرسلت إلى عملائها، كما بعثت أخطر جواسيسها تحت ثياب الدبلوماسية والسفارات والممثلين لها إلى مختلف مناطق العالم. وتحت ستار الخبراء العسكريين وتدريب الدّول المستضعفة على الاسلحة الحديثة والمتطورة كانوا يأخذون مع عودتهم جميع الاسرار العسكرية لتلك الدولة. وبإرسال خبراء فنيين!! الى هذه الدول يربطوا عجلة اقتصادها بالمناهج تكرس التبعية تُرى، أليست كل هذه التجارب التأريخيّة كافية لئلاّ ننخدع بهذه الزخارف البّراقة الكاذبة وأن نعرف وجوه هؤلاء الذئاب المتظاهرين بالإِنسانيّة. 2 - حاجة الإِنسان الفطرية والطبيعية إلى التنزّه والإِرتياح من الطريف أن يعقوب (عليه السلام) لم يردّ على كلام إِخوة يوسف واستدلالهم على أنّه بحاجة إلى التنزه والإِرتياح، بل وافق على ذلك عمليّاً، وهذا دليل كاف على أن أيّ عقل سليم لا يستطيع أن يُنكر هذه الحاجة الفطرية والطبيعيّة... فالإِنسان ليس آلة تستعمل في أي وقت كان وكيف كان، بل له روح ونفس ينالهما التعَبُ والنَصُب كما ينالان الجسم. فكما أن الجسم يحتاج إلى الراحة والنوم، كذلك الرّوح والنَّفس بحاجة إلى التنزّه والإِرتياح السليم. التجربة - أيضاً - تدل على أن الإِنسان كلّما واصل عمله بشكل رتيب، فانّ مردود هذا العمل سيقلّ تدريجياً نتيجة ضعف النشاط، وعلى العكس من ذلك فإنّ الإِستراحة لعدة ساعات تبعث في الجسم نشاطاً جديداً بحيث تزداد كمية العمل وكيفيته معاً، ولذلك فإنّ الساعات التي تصرف في الراحة والتنزه تكون عوناً على العمل أيضاً. وفي الرّوايات الإِسلامية نجد هذه الواقعية بأسلوب طريف جاء بمثابة "القانون" حيث يقول الإِمام علي (عليه السلام): "للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يرمّ معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل"(2). وممّا يستجلب النظر أنّ في بعض الرّوايات الإِسلامية أضيفت هذه الجملة إلى النص المتقدم "وذلك عون على سائر الساعات". وعلى حدّ تعبير البعض فإنّ التنزّه والإِرتياح بمثابة تدهين وتنظيف أجهزة السيّارة، فلو توقفت هذه السيارة ساعة عن العمل لمراقبة أجهزتها وتنظيفها، فإنها ستغدو أكثر قوةً نشاطاً يعوّض عن زمن توقفها أضعاف المرات، كما أنه سيزيد من عمر السيارة أيضاً. لكن المهم أن يكون هذا التنزّه صحيحاً، وإِلاّ فإنه لا يحل المشكلة، بل سيزيدها، فإِنّ كثيراً من حالات التنزّه هذه تدمر الإِنسان وتسلب منه نشاطه وقدرته على العمل لفترة ما، أو على الأقل تخفف من نشاط عمله. وهناك نقطة تدعو للإِلتفات أيضاً، وهي أن الإِسلام اهتم بمسألة الترويض والإِستراحة النفسيّة بحيث أجاز المسابقات في هذا المضمار... ويحدثنا التاريخ أنّ قسماً من هذه المسابقات جرت بمرأى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحياناً كانت تناط إِليه مهمة التحكيم والقضاء في هذه المسابقة، وربّما أعطى ناقته الخاصّة - لبعض الصحابة للتسابق عليها. ففي رواية الإِمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إِن النّبي أجرى الإِبل مقبلة من تبوك فسبقت العصباء وعليها أسامة، فجعل الناس يقولون: سبق رسول الله ورسول الله يقول: سبق أسامة(3)" (إِشارة إلى أن المهم في السبق هو الراكب لا المركب، حتى وإِن كان المركب السابق عند من لا يجيدون السبق). النقطة الأُخرى هي أنّه كما أن إِخوة يوسف استغلّوا علاقة الإِنسان - ولا سيما الشاب - بالتنزّه واللعب من أجل الوصول إلى هدفهم الغادر... ففي حياتنا المعاصرة - أيضاً - نجد أعداء الحق والعدالة يستغلّون مسألة الرياضة واللعب في سبيل تلويث أفكار الشباب، فينبغي أن نحذر المستكبرين "الذئاب" الذين يخططون لاضلال الشباب وحرفهم عن رسالتهم تحت اسم الرياضة والمسابقات المحلّية والعالمية. ولا ننسى ما كان يجري في عصر الطاغوت (الشاه)، فإنّهم وبهدف تنفيذ بعض المؤاموات ونهب ثروات البلاد وتحويلها إلى الأجانب لقاء ثمن بخس، كانوا يرتّبون سلسلة من المسابقات الرياضية الطويلة العريضة لإِلهاء الناس لئلاّ يطلعوا على المسائل السياسيّة. 3 - الولد في ظلّ الوالد إِذا كانت محبّة الأب الشديدة أو الأُم بالنسبة للولد تستوجب أن يحفظ إلى جانبهما، إِلاّ أن من الواضح أن فلسفة هذه المحبة من وجهة نظر قانون الخلقة هي المحافظة التامة على الولد عند الحاجة إِليها، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تقل هذه المحافظة كلّما تقدّمت به السن، ويُمنح الولد الإِجازة ليخطوُ في حياته نحو الإِستقلال، والاّ فسيكون كمثل غرسة النّورس تحت ظل الشجرة القوية دائماً لا تنمو كما يلزم. وربّما وافق يعقوب (عليه السلام) - لهذا السبب - على اقتراح أبنائه رغم علاقته الشديدة بيوسف، وأرسله معهم إلى خارج المدينة، ومع أنّ هذا الإمر كان صعباً على يعقوب، ولكن مصلحة يوسف وحاجته إلى الرُشد والنُموّ كانت تستوجب أن يُجيزه أبوه ليبتعد عنه ساعات وأيّاماً! وهذه مسألة تربوية مهمّة غَفل عَنها كثير من الآباء والأُمهات، حيث يربّون أولادهم تربية بحيث لا يستطيعون أن يعيشوا خارج "خيمة الأبوين" ومحافظتهما عليهم، وبالتالي يسقطون أمام تيارات الحوادث وضغوطها، كما أن هناك رجالا عظماء فقدوا والديهم في دور الطفولة، ولكنّهم صنعوا أنفسهم بأيديهم وواجهوا المشاكل وتجاوزوها. فالمهم أن يلتفت الوالدان إلى هذه المسألة التربوية، وإِلاّ فستكون محبتهما "الكاذبة" مانعاً من استقلال أولادهم. من الطريف أن هذه المسألة موجودة في بعض الحيوانات بشكل غريزي، فنحن نرى أفراخ الدجاج "الفروج" - مثلا - يبدأ حياته تحت جناحي أمه، وتحافظ الدجاجة الأُم عليها كما تحافظ على روحها "العزيزة". ولكن بعد فترة حيت تكبر هذه الأفراخ فإنّ الأُم لا تترك المحافظة على هذه الأفراخ فحسب، بل تنقرُ أيّاً منها يصل إِليها. ومعنى هذا أنّها تريد أن تعوِّدهم على أن يتعلموا طريق الحياة المستقلة! فإلى متى تعيشون غير مستقلين؟! ولكن هذا الموضوع لا ينافي تقوية الروابط العائلية والمحافظة على المودة والمحبّة، بل هي محبّة عميقة وعلاقة محسوبة ونافعة للطرفين. 4 - لا قصاص ولا اتهام قبل الجناية نشاهد في هذا الفصل من القصّة أنّ يعقوب بالرغم من علمه بما سيقدم عليه إِخوة يوسف... وتحذيره ولَدَهُ يوسف ألاّ يقصص رؤياه على إِخوته، وأن يكتم الأمر، إِلاّ أنّه لم يكن مستعداً لأنّ يتّهمهم بقصد الإِساءة إلى يوسف، بل كان عذره إِليهم أنّه يحزنه فراقه، ويخاف أن يأكله الذئب في الصحراء. والأخلاق والمعايير الإِنسانية والأسس القضائية العادلة توجب ذلك أيضاً، فحيث لم تتوفر لدينا علامة ظاهرة على مخالفة شخص ما فلا ينبغي اتّهامه، فالأصل البراءة والصحّة والطهارة إِلاّ أن يثبت خلافه. 5 - تلقين العدوّ المسألة الأُخرى أننا نقرأ - في ذيل الآيات المتقدمة - رواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "لا تلقّنوا الكذّاب فيكذب فإنّ بني يعقوب (عليه السلام) لم يعلموا أن الذئب يأكل الإِنسان حتى لقّنهم أبوهم"(4). إِشارة إلى أنه قد يحدث أحياناً أن لا يلتفت الطرف الآخر إلى الحيلة والى طريق الإِعتذار وانتخاب طريق الإِنحراف، فعليكم أن تحذروا من ذكر الإِحتمالات المختلفة التي تبيّن له طرق الإِنحراف. ومثل هذا يشبه تماماً ما لو قال الإِنسان لطفله: لا ترمِ الكرة باتّجاه المصباح، ولم يكن الطفل يعلم أن الكرة يمكن أن تُرمى نحو المصباح، فيلتفت إلى أن مثل هذا العمل ممكن، وتتحرك فيه نوازع الفحص... ماذا سيكون لو رميت الكرة باتجاه المصباح؟ ثمّ يبدأ "لعبته" لتنتهي بتكّسر المصباح! وليس هذا موضوعاً هيناً ولا خاصاً بالأطفال، فقد يتفق أحياناً أن الأوامر والنواهي الخاطئة، تسبب أن يتعلم الناس أشياء لم يعرفوها من قبل، فتوسوس لهم أنفسهم أن يقدموا عليها، فينبغي في مثل هذه الموارد - قدر المستطاع - أن تثار المسائل بشكل لا يبعث على أي تعلّم سيىء! وبالطبع فإنّ يعقوب النّبي (عليه السلام) قال كلامه عن صفاء وطهارة قلب، إِلاّ أنّ أبناءه الضالين استغلوا كلامه لقصدهم السيىء. وشبيه هذا الموضوع الأُسلوب الذي نجده في كثير من المقالات، فمثلا قد يكتب أحدهم مقالة - أو يقوم باخراج فيلماً أو غيرها - عن ضرر الموادّ المخدرة أو الإِستمناء، فيتناول هذه المسائل بصورة يتعلمها غيرُ المطلعين وينسون المسائل التي تذكر في هذه المواضيع لذم هذه الأعمال وبيان طرق النجاة منها، ولذلك فغالباً ما يكون ضرر هذه المقالات والأفلام وخسارتها أكثر من فائدتها بمراتب. 6 - وآخر نقطة نشير إِليها هنا أنّ إِخوة يوسف (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إِنا إِذاً لخاسرون) وهي إِشارة إلى أنّ الإِنسان إِذا تحمّل مسؤوليةً ما - ووافق عليها - فإنّ من الواجب عليه أن يوقف نفسه من أجلها... وإِلاّ فإنّه سيفقد كل قِيمهِ - قيمة شخصيته، وماء وجهه، والموقع الإِجتماعي، ووجدانه. فكيف يعقل أن يكون الشخص ضمير حيّ ووجدان يقظ وشخصية كريمة يعتز بحيثيته وماء وجهه، ومع كل ذلك يتنصل عن مسؤولياته ويقف موقفاً سلبياً إِزاءها؟! ﴿قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ ولم نمنعه منه ﴿إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ﴾ عجزة ضعفاء فأرسله معهم.