لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أمّا عزيز مصر فقد قبل هذا الحكم الدقيق، وتحيّر في قميص يوسف ذاهلا: (فلمّا رأى قميصه قُدّ من دُبر قال إنّه من كيدكن إنّ كيدكن عظيم). في هذه الحال، ولخوف عزيز مصر من إنتشار خبر هذا الحادث المؤسف على الملأ، فتسقط منزلته وكرامته في مصر رأى أنّ من الصلاح كتمان القضيّة، فالتفت إلى يوسف وقال: (يُوسفُ أعرض عن هذا) أي اُكتم هذا الأمر ولا تخبر به أحداً... ثمّ التفت إلى امرأته وقال: (واستغفري لذنبك إنّك كنت من الخاطئين)(5). وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ القائل لهذه الجملة ليس عزيز مصر، بل الشاهد نفسه، ولكن لا دليل يؤيّد هذا الإحتمال وخاصّة مع وقوع هذه الجملة بعد قول العزيز. ملاحظات 1 - من كان الشاهد؟! هناك أقوال في الشاهد الذي ختم "ملفّ يوسف وامرأة العزيز" بسرعة، وأوضح البريء من المسيء من هو؟ قال بعضهم: هو أحد أقارب امرأة العزيز، وكلمة "من أهلها" دليل على ذلك... وعلى القاعدة فهو رجل حكيم وعارف ذكي بحيث إستطاع أن يستنبط الحكم من قدّ الثوب دون أن يكون لديه شاهد أو بيّنة. بل إكتشف حقيقة الحال... ويقال: إنّ هذا الرجل كان من مشاوري عزيز مصر وكان معه. التّفسير الآخر: إنّ الشاهد كان طفلا رضيعاً من أقارب امرأة العزيز وكان على مقربة من الحادث، وكان يوسف قد طلب من عزيز مصر أن يحتكم إلى هذا الطفل، فتعجّب عزيز مصر من هذا الطلب... تُرى هل يمكن هذا؟! لكن "الطفل" حين تكلّم - كما تكلّم المسيح (عليه السلام) في المهد - وأعطى هذا المعيار لمعرفة البريء من المسيىء، التفت عزيز مصر إلى أنّ يوسف ليس غلاماً (عاديّاً) بل هو نبي أو متنّبي. والرّوايات المنقولة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) وأهل السنّة تشير إلى هذا التّفسير، من جملتها ما نقله ابن عبّاس عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّه قال: "أربعة تكلّموا أطفالا: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم"(6). كما نقل عن تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق أنّ شاهد يوسف كان طفلا في المهد(7). ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ أيّاً من الحديثين المتقدّمين ليس له سند قوي، بل هما مرفوعان. الإحتمال الثالث: إنّ الشاهد هو القدّ في الثوب الذي تكلّم بلسان الحال، ولكن مع ملاحظة كلمة (من أهلها) يضعّف هذا الإحتمال، بل ينفيه!. 2 - الموقف الضعيف لعزيز مصر من جملة المسائل التي تستجلب الإنتباه في هذه القصّة أنّ في مثل هذه المسألة المهمّة التي طُعن فيها بناموس عزيز مصر وعرضه، كيف يكتفي قانعاً بالقول (واستغفري لذنبك إنّك كنت من الخاطئين) وربّما كانت هذه المسألة سبباً لأنّ تدعو امرأة العزيز نساء الأشراف إلى مجلسها الخاص، وتكاشفهنّ بقصّة حبّها وغرامها بجلاء. تُرى: أكان هذا خوفاً من الإفتضاح، فاختصر عزيز مصر هذه المسألة وغضّ النظر عنها!؟ أم أنّ هذه المسألة - أساساً - ليست بذات أهميّة للحكّام ومالكي أزمّة الأُمور والطواغيت، فهم لا يكترثون للغيرة وحفظ الناموس، لأنّهم ملوّثون بالذنوب وغارقون في مثل هذه الرذائل والفساد حتّى كأنّه لا أهميّة لهذا الموضوع في نظرهم. يبدو أنّ الإحتمال الثّاني أقرب للنظر!. 3 - حماية الله في الأزمات الدرس الكبير الآخر الذي نتعلّمه من قصّة يوسف، هو حماية الله ورعايته للإنسان الأكيدة في أشدّ الحالات، وبمقتضى قوله: (يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) - فمن جهة كان يوسف لا يُصدّق أبداً أنّ نافذة من الأمل ستفتح له، ويكون قدُّ القميص سنداً للطهارة والبراءة، ذلك القميص الذي يصنع الحوادث، فيوماً يفضح إخوة يوسف لأنّهم جاؤوا أباهم وهو غير ممزّق، ويوماً يفضح امرأة العزيز لأنّه قدّ من دُبر، ويوماً آخر يهب البصر والنّور ليعقوب، وريحه المعروف يسافر مع نسيم الصباح من مصر إلى أرض كنعان ويبشّر العجوز "الكنعاني" بقدوم موكب البشير!. وعلى كلّ حال فإنّ لله ألطافاً خفيّة لا يسبر غورها أحد، وحين يهبّ نسيم هذه الألطاف تتغيّر الأسباب والمسبّبات بشكل لا يمكن حتّى لأذكى الأفراد أن يتنبّأ عنها!. بل قد يتّفق أحياناً أنّ خيوط العنكبوت تبدّل مسير الحياة لاُمّة أو قوم بشكل دائم، كما حدث في قصّة غار ثور وهجرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). 4 - خطّة امرأة العزيز في الآيات المتقدّمة إشارة إلى مكر النسوة (طبعاً النساء اللائي لا إرتباط لهنّ بشيء إلاّ هواهنّ كامرأة العزيز) وهذا المكر والتحيّل الموصوف بالعظمة (إنّ كيدكنّ عظيم) يوجد منه في التاريخ والقصص التاريخيّة أمثلة كثيرة، حيث تكشف إجمالا أنّ النساء اللائي يسوقهنّ هواهنّ يرسمن خططاً لا نظير لها من نوعها. رأينا في القصّة المتقدّمة كيف أنّ امرأة العزيز بعد الهزيمة في عشقها وإفتضاح أمرها، برّأت نفسها بمهارة واتّهمت يوسف ولم تقل إنّ يوسف قصد السوء بي، بل إفترضت ذلك أمراً مسلّماً به. وإنّما سألت فقط عن جزاء مثل من يعمل هذا العمل!! جزاءً لا يتوقّف على السجن فحسب، بل يأخذ أبعاداً أُخرى غير محدودة. ونرى أيضاً أنّ هذه المرأة في مقابل لوم نسوة مصر لها إذ عشقت غلامها - في الآيات التالية - تستعمل مثل هذا المكر أو الخداع، وهذا تأكيد آخر على مكر مثل هؤلاء النسوة! ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ﴾ أي الصنع ﴿مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾