وأخيراً أمر يوسف رجاله بأن يضعوا الأموال التي اشتروا بها الحبوب في رحالهم - جلباً لعواطفهم - (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلّهم يرجعون).
بحوث
1 - لماذا لم يظهر يوسف حقيقته لإخوته
بالنسبة للآيات السابقة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو إنّه لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لإخوته، حتّى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا إلى أبيهم ويخبرونه عن مصير يوسف، وبذلك تنتهي آلامه لأجل فراق يوسف؟
ويمكن طرح هذا السؤال على شكل أوسع وبصورة أُخرى، وهو أنّه حينما التقى يوسف باخوته في مصر كان قد مرّ ثمان سنوات على تحريره من السجن، حيث كان في السنة الأُولى من سنوات القحط والجدب، التي أعقبت سبع سنوات من الوفرة والرخاء، وقام بخزن المنتوجات الزراعية - وفي السنة الثامنة أو بعدها - جاء اُخوة يوسف إلى مصر لشراء الحبوب، فلماذا لم يحاول يوسف خلال هذه السنوات الثمان أن يبعث إلى كنعان من يخبر أباه بواقع حاله ويخرجه عن آلامه وينهي مرارته الطويلة؟
حاول جمع من المفسّرين - كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان والعلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن - الإجابة على هذا السؤال، وذكروا له عدّة أجوبة، ولعلّ أحسنها وأقربها هو أنّ يوسف لم يكن مجازاً من قبل الله سبحانه وتعالى في إخبار أبيه، لأنّ قصّة يوسف مع غضّ النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لإختبار يعقوب وحقلا لإمتحانه، فلابدّ من أن يؤدّي يعقوب إمتحانه ويجتاز فترة الإختبار قبل أن يسمح ليوسف بإخباره، وإضافةً إلى هذا فإنّ إسراع يوسف في إخبار إخوته قد يؤدّي إلى عواقب غير محمودة، مثلا قد يستولي عليهم الخوف والهلع من إنتقام يوسف منهم لما إرتكبوه سابقاً في حقّه فلا يرجعوا إليه.
2 - لماذا أرجع يوسف الأموال إلى إخوته
السؤال الذي يطرح نفسه هو أنّه لماذا أمر يوسف أن تردّ أموال إخوته التي دفعوها ثمناً للحبوب، وتوضع في رحالهم؟
وقد أجاب المفسّرون عن هذا السؤال بإجابات عديدة، ومنهم الرازي في تفسيره حيث ذكر عشرة أجوبة، لكن بعضها بعيد عن الواقع، ولعلّ ملاحظة الآيات السابقة تكفي في الإجابة عن السؤال، لأنّ الآية الشريفة تقول: (لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلّهم يرجعون) فإنّ يوسف كان يقصد من وراء هذا العمل، أنّ إخوته بعد رجوعهم إلى الوطن حينما يجدون أموالهم قد خبّئت في متاعهم، سوف يقفون على كرم عزيز مصر (يوسف) وجلالة قدره، أكثر ممّا شاهدوه، وسوف يطمئن يعقوب بنوايا عزيز مصر ويعطي الإذن بسفر بنيامين، ويكون السبب والدافع في سفرهم إلى مصر مرّة أُخرى وباطمئنان أكثر مستصحبين معهم أخاهم الصغير.
3 - كيف وهب يوسف إلى إخوته أموال بيت المال؟
السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هو أنّه كيف وهب يوسف الأموال من بيت المال لإخوته دون أي تعويض؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال بطريقتين:
الأوّل: أنّ بيت المال في مصر كان يحتوي على حصّة معيّنة من الأموال تصرف في شؤون المستضعفين (ومثل هذه الحصّة موجودة دائماً) وبما أنّ إخوة يوسف كانوا في تلك الفترة من المستضعفين، استغلّ يوسف هذه الفرصة وإستفاد من هذه الحصّة لمساعدة إخوته: (كما كان يستفيد منها في مساعدة سائر المستضعفين) ومن المعلوم أنّ الحدود المصطنعة بين الدولة لم تكن حائلا دون مساعدة مستضعفي سائر البلدان من هذه الحصّة.
الثّاني: أنّ المناصب العالية في الدولة - كمنصب يوسف - تتضمّن عادةً على إمتيازات وحقوق معيّنة، ومن أقلّ هذه الحقوق هو أن يهيىء لنفسه ولعائلته المحتاجة ولمن يقرب إليه كأبيه وإخوته مستلزمات العيش الكريم، وقد إستفاد يوسف من هذا الحقّ في إعطاء الأموال لإخوته.
﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ﴾ لغلمانه وقرىء لفتيته ﴿اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ﴾ في ميرتهم وكانت ورقا أو نعالا وأدما ﴿فِي رِحَالِهِمْ﴾ أوعيتهم ردوها عليهم من حيث لا يعلمون تفضلا أو خوفا أن لا يجد أبوه ما يعودون به ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ﴾ وفتحوا متاعهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لإكرامنا لهم أو لعدم استحلالهم إمساكها.