ثمّ أرادوا أن يزيلوا الشكّ والريبة عن قلب أبيهم فقالوا يمكنك أن تتحقّق وتسأل من المدينة التي كنّا فيها (وسأل القرية التي كنّا فيها)(2) ومن القافلة التي سافرنا معها إلى مصر ورجعنا معها، حيث أنّ فيها اُناساً يعرفونك وتعرفهم، وبمقدورك أن تسألهم عن حقيقة الحال وواقعها (والعير التي أقبلنا فيها)(3) وفي كلّ الأحوال كن على ثقة بأنّنا صادقون ولم نقص عليك سوى الحقيقة والواقع (وإنّا لصادقون).
يستفاد من مجموع هذه الكلمات والحوار الذي دار بين الأولاد والأب أنّ قضيّة سرقة بنيامين كانت قد شاعت في مصر، وأنّ جميع الناس علموا بأنّ أحد أفراد العير والقافلة القادمة من كنعان حاول سرقة صواع الملك، لكن موظفي الملك تمكّنوا بيقظتهم من العثور عليها والقبض على سارقها، ولعلّ قول الاُخوة لأبيهم (وسأل القرية...) أي إسأل أرض مصر، كناية عن أنّ القضيّة شاعت بحيث علم بها حتّى أراضي مصر وحيطانها.
بحوث
1 - من هو أكبر الإخوة؟
ذهب بعض المفسّرين إلى أنّه كان روبين (روبيل) وقال آخرون: إنّه (شمعون) واحتمل البعض أن يكون أكبرهم هو (يهودا).
وحصل نقاش آخر بين المفسّرين في أنّه ما المقصود من الكبر، هل هو في العمر أم في العقل؟ لكن المستفاد من ظاهر الآية أنّ المقصود به هو أكبر الإخوة في العمر.
2 - الحكم وفق الدلائل الظاهرة:
ويستفاد من مدلول الآية الشريفة أنّه يحقّ للقاضي والحاكم أن يحكم في الواقعة المرفوعة إليه على ما يستفيده من القرائن والشواهد القطعيّة، وأن يقرّ المتّهم أو يشهد الشهود عنده، لأنّنا لاحظنا في قضيّة إخوة يوسف أنّه بمجرّد أن عثر على الصاع في متاع بنيامين عُدّ مذنباً وحكم عليه بالسرقة من دون شهادة أو إقرار، لأنّنا حينما نتحرّى عن القضيّة نرى أنّ كلّ شخص كان مسؤولا عن حمل متاعه من الحبوب بنفسه، أو انّه كان حاضراً على الأقل عند تحميل العمال لمتاعه، ومن جهة أُخرى لم يكن يتصوّر أحد أنّ هناك خطّة في البين، وهؤلاء الإخوة لم يعاديهم أحد في مصر، فجميع القرائن والشواهد تورث اليقين بأنّ هذا الفعل (السرقة) قد صدر عمّن وجد عنده الصاع.
وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة عميقة في الفقه الإسلامي لتأثيره المهمّ في قضايانا المعاصرة لأنّ عالم اليوم يعتمد عليه كثيراً في محاكماته، لكنّنا تركنا هذا المبحث لأنّ مجاله كتاب (القضاء).
3 - يستفاد من الآيات السابقة أنّ إخوة يوسف كانت طبائعهم مختلفة، أمّا الأخ الأكبر فإنّه كان وفيّاً بميثاقه وحافظاً لوعده الذي واعد به أباه، أمّا بقيّة الإخوة فإنّهم بعد أن شاهدوا فشل جميع محاولاتهم في إقناع العزيز، تراجعوا عن موقفهم وعدّوا أنفسهم معذورين، ومن الطبيعي إنّ ما قام به الأخ الأكبر كان هو الاُسلوب المجدي والصحيح، لأنّه ببقائه في مصر والإعتصام بها وعلى مقربة من بلاط العزيز وقصره كان باعثاً للأمل في أن يترحّم العزيز على الإخوة وعلى أبيهم الشّيخ الكبير، ويعفو عن هذا الغريب ولا يجازيه من أجل صاع سرقه ثمّ عثر عليه العمّال، فعلى هذا وأملا في استجداء عطف العزيز، بقي في مصر وبعث بإخوته إلى أبيهم في كنعان ليبلغوه الخبر ويطلبوا منه أن يدلّهم على الطريق الصحيح لإنقاذ أخيهم.
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ هي مصر أي أرسل إلى أهلها واسألهم عن ذلك ﴿وَالْعِيْرَ﴾ واسأل أهل القافلة ﴿الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ في خبرنا فرجعوا إليه وقالوا له ما قال أخوهم.