التّفسير
يعقوب والألطاف الإلهية:
وأخيراً غادروا مصر متّجهين إلى كنعان في حين تخلّف أخواهم الكبير والصغير، ووصلوا إلى بيتهم منهوكي القوى وذهبوا لمقابلة أبيهم، وحينما رأى الأب الحزن والألم مستولياً على وجوههم (خلافاً للسفرة السابقة والتي كانوا فيها في غاية الفرح) علم أنّهم يحملون إليه أخباراً محزنة وخاصّة حينما إفتقد بينهم بنيامين وأخاه الأكبر، وحينما أخبروه عن الواقعة بالتفصيل، إستولى عليه
الغضب وقال مخاطباً إيّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا أن يشرحوا له خديعتهم مع يوسف (قل بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً) أي إنّ أهواءكم الشيطانية هي التي إستولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو أنّ يعقوب هل إكتفى في نسبة الكذب واتّباع الهوى لأولاده إستناداً إلى ما فعلوه في المرّة السابقة مع يوسف من سوء الفعل والحنث باليمين والعهد، مع أنّ مثل هذا الظنّ والقول واتّهام الآخرين لمجرّد تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامّة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم، وعلى الخصوص إذا استند المدّعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت دعواه، كما أنّ طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحاً ليعقوب.
أو كان يعقوب يقصد بقوله: (بل سوّلت لكم... إلى آخر) الإشارة إلى اُمور أُخرى، منها:
1 - لعلّه عتاب لأولاده لخضوعهم أمام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز بمجرّد عثور الصاع عند أخيهم، مع أنّ العثور بمفرده لا يعدّ دليلا منطقيّاً على السرقة.
2 - ولعلّه عتاب لأولاده لما بيّنوه للعزيز من أنّ عقوبة السارق عندهم هو إستعباده مع أنّ هذه السنّة السائرة في أهل كنعان سنّة باطلة ولا تعدّ قانوناً سماوياً (هذا إن قلنا أنّ هذه السنّة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب إليه بعض المفسّرين).
3 - وأخيراً لعلّه عتاب لأولاده على إستعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز وخلق المعاذير والمبرّرات والرجوع مستعجلين إلى كنعان دون الإقتداء بأخيهم الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلّظة التي قطعوها مع أبيهم(1).
لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن والأسى رجع يعقوب إلى قرارة نفسه وقال: (فصبر جميل) أي أنّني سوف أمسك بزمام نفسي، ولا أسمح لها بأن تطغى عليّ بل أصبر صبراً جميلا على أمل بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي أولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر) (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) فإنّه هو العالم بواقع الأُمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي، ولا يفعل إلاّ عن حكمة وتدبير (إنّه هو العليم الحكيم).
ثمّ بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده، إستولى عليه الحزن والألم، وحينما رأى مكان بنيامين خالياً عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه، وتذكّر تلك الأيّام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه، أمّا اليوم فلم يبق منه أثر ولا عن حياته خبر، كما أنّ خليفته (بنيامين) أيضاً قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب إلى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ﴾ زينت ﴿لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ فصنعتموه ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ بتقدير مبتدإ أي فأمري صبر أو خبر أي أجمل ﴿عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ بيوسف وإخوته ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بحالنا ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه.