الآية اترفع بعضالإشتباهات في مسألة الحجّ وتقول (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم).
لقد كان التعامل الإقتصادي بكافّة ألوانه محضوراً في موسم الحجّ عند الجاهليّين، وكانوا يعتقدون ببطلان الحجّ إذا اقترن بالنّشاط الإقتصادي، فالآية مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكّد أنّه لا مانع من التعامل الإقتصادي والتّجاري في موسم الحجّ، وتسمح بابتغاء فضل الله في هذا الموسم عن طريق العمل والكد.
وهذا النمط من التفكير كان سائداً في العصر الجاهلي ونجده كذلك في زماننا هذا وأنّ هذه العبادة العظيمة- يعني الحجّ- يجب أن تكون خالصة من أيّة شوائب ماديّة، ولكن بما أنّ سائر العاملين في هذا السبيل مضافاً إلى الناس الّذين يقصدون بيت الله من بعيد الدّيار يمكنهم أن يحلّوا الكثير من مشاكلهم الإقتصاديّة في سفر الحجّ هذا، ولهذا السبب أبطل القرآن الكريم هذا اللّون من التفكير، ويُحق لهؤلاء الأشخاص أن يأتوا بعبادة الحجّ ويؤدّوا مناسكه ضمن أداء خدماتهم الاُخرى ولا يكونوا في مضيقة من هذه الجهة، بل أنّ النصوص الإسلاميّة التي تتحدّث عن حكمة الحجّ تشير أيضاً إلى الجوانب الإقتصادية إضافة إلى الجوانب الأخلاقية والسياسية والثقافية، وتوضّح أنّ سفر المسلمين من كلِّ فجٍّ عميق إلى بيت الله الحرام لعقد مؤتمر الحجّ العظيم يستطيع أن يكون منطلقاً لتحرّك اقتصادي عامّ في المجتمعات الإسلامية.
وذلك يتحقّق باجتماع الأدمغة الإقتصادية الإسلامية المفكّرة قبل أداء المناسك أو بعده لوضع أُسس اقتصاد سليم في المجتمعات الإسلامية يقوم على أساس التعاون والتبادل الإقتصادي بين أبناء الأُمّة الإسلامية، والإستغناء عن الأجانب والأعداء، وبلوغ المستوى الممكن اللائق من الإكتفاء الذاتي.
من هنا، فهذه المعاملات والمبادلات التجارية سبل لتقوية بنية المجتمع الإسلامي أمام أعداء الإسلام، ذلك لأنّ أيّ شعب من الشعوب لا يمكن أن ينال استقلاله الكامل دون أن يقوم على أساس اقتصادي قوي، ولكن النشاط الإقتصادي في موسم الحجّ ينبغي طبعاً أن ينضوي تحت الأبعاد العبادية والأخلاقية للحجّ، لا أن يقدّم ويهيمن عليها.
وواضح أنّ الحجّاج لهم الوقت الكافي قبل أعمال الحجّ وبعده لمثل هذا النشاط.
يروي هشام بن الحكم أنّه سأل الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) عن العلّة الّتي لأجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت، فقال "...
فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع بذلك المكاري والجمّال...
ولو كان كلّ قوم إنّما يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح..."(6)
ثمّ تعطف الآية الشريفة على ما تقدّم من مناسك الحجّ وتقول (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وأذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالّين).
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ إثم ﴿أَن تَبْتَغُواْ﴾ في أن تطلبوا ﴿فَضْلاً﴾ رزقا ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ بالتجارة قيل كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع ذلك أو المراد مغفرة منه ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم﴾ دفعتم أنفسكم بكثرة ﴿مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ﴾ بالتسبيح ونحوه ﴿عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ لدينه أي بإزاء هدايته أو كما علمكم المناسك وغيرها ﴿وَإِن﴾ مخففة ﴿كُنتُم مِّن قَبْلِهِ﴾ قبل الهدى ﴿لَمِنَ الضَّآلِّينَ﴾ الجاهلين.