لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ تقول الآية في حديثها هذا: (ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس) فهذا المقطع يتضمّن أمراً بالإفاضة أي بالإندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى أرضمنى. ففي نهاية الآية تُعطي أمراً بالإستغفار والتوبة وتقول: (واستغفروا الله إنّ الله غفور رحيم). ففي هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحجّ (عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد 20 كيلومتراً تقريباً من مكّة ويجب على الحجّاج أن يقفوا في هذا المحل من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة إلى غروب الشمس فيشتغلوا بالعبادة والذكر، ثمّ الوقوف بـ (المشعر الحرام أو المزدلفة) حيث يبيتون هناك ليلة عيد الأضحى ويبقون هناك إلى قبل طلوع الشمس مشغولين بالدعاء والمناجاة مع الله تعالى، والثالث أرض (منى) وهي محل ذبح الأضاحي ورمي الجمرات وحلّ الإحرام واداء مناسك العيد. بحوث 1- أول موقف للحجيج تقدّم أنّ حجّاج بيت الله الحرام يتجّهون بعد أداء مناسك العمرة نحو أداء مناسك الحجّ، وأوّل موقف يقفون فيه هو في "عرفات"، وهي صحراء واسعة تقع على بعد أربعة فراسخ من مكّة يقف فيها الحاج من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة حتّى غروب ذلك اليوم. وفي سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم قيل: إنّ إبراهيم(عليه السلام) قال حين أراه جبرائيل مناسك الحجّ: "عرفت، عرفت". وقيل إن هذه القصة وقعت لآدم وحواء، وقيل أيضاً أن آدم وحواء تعارفا في هذا المكان، وقيل أن حجاج بيت الله يتعارفون فيما بينهم في هذا المكان، وتفسيرات اُخرى(7). ولا يبعد أن تكون التسمية إشارة إلى حقيقة أُخرى أيضاً، وهي أن هذه الأرض المشرّفة التي تبدأ منها أُولى مراحل الحجّ محيط مناسب جدّاً لمعرفة الله تعالى. و الحاجّ في هذا الموقف يشعر حقّاً بانشداد روحي ومعنوي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات. الحجيج في هذه الأرض القاحلة متجمّعون بشكل واحد وبزيّ واحد، قد هربوا من بريق الحياة وزخرفها وصخبها وضجيجها ولاذوا بهذه الأرض المشرّفة المفعمة بذكريات الرسالات السماوية، حيث يحمل نسيمها نداء جبرائيل وصوت الخليل ودعوة النبيّ الخاتِم، وصحبه المجاهدين. وتنطق أرضها بصور الجهاد والتضحية والإنقطاع إلى الله على مرّ التاريخ. كأنّ هذه الأرض نافذه تشرف على عالم ما وراء الطبيعة، يرتوي فيها الإنسان من منهل العرفان، وينساق مع تسبيح الخليقة العام، بل يعود أيضاً إلى ذاته التي انفصل عنها زمناً طويلاً فيعرف نفسه، ويعرف أنّه ليس بذلك الكائن اللاهث ليل نهار وراء جمع الحطام والمتاع دون أن يرويه شيء، بل إنّه جوهر آخر كان يجهله قبل الوقوف في عرفات... نعم إنّها "عرفات" وما أجمل هذا الاسم! وما أعمق مدلوله! 2- المشعر الحرام- الموقف الثاني للحجيج وبشأن تسمية "المشعر الحرام" بهذا الاسم قيل: إنّه مركز لشعائر الحجّ، ومعلم من معالم هذه العبادة العظيمة. ومن المهمّ أن نفهم أنّ "المشعر" من مادة "الشعور"، ففي تلك الليلة التاريخية المثيرة "ليلة العاشر من ذي الحجّة" حيث حجّاج بيت الله الحرام قد أنهوا المرحله الاُولى من هذه الدورة التربوية في عرفات واندفعوا نحو المشعر الحرام ليقضوا ليلة يفترشون فيها الأرض ويلتحفون السماء، ضمن إطار أرض محدودة الأبعاد أشبه ما تكون- وهي تموج بآلاف الحجّاج- بأرض المحشر... في مثل هذه الظروف الزمانية والمكانية... وفي إطار الإلتزام بالإحرام وواجباته ومحرّماته، تجيش في النفس الإنسانية "مشاعر" خاصّة تربط الإنسان بالملأ الأعلى وتحلق به في أبعاد جديدة سامية... ومن هنا كانت تلك الأرض مشعراً. 3- درس الوحده والاتحاد جاء في بعض الروايات الشريفة أن قبائل قريش كانت ترى لنفسها مكانة دينية خاصّة بين العرب، وكان أفرادها يسمّون أنفسهم "الحُمس"(8) ويرون أنّهم أبناء إبراهيم (عليه السلام) وسدنة الكعبة، ولذلك كانوا يترفّعون على بقية القبائل العربية. ومن هنا فإنهم تركوا الوقوف في عرفات لأنّها خارج الحرم المكّي، وما كانوا يودّون أن يحترموا أرضاً تقع خارج حرم مكّة، ظنّاً منهم أنّ ذلك يقلّل من شأنهم بين قبائل العرب، مع علمهم بأنّ الوقوف في عرفات من مناسك الحجّ الإبراهيمي(9). الآية الكريمة تبطل كلّ هذه الأوهام وتأمر بوقوف الحجّاج جميعاً في عرفات، ثمّ التحرك منها نحو المشعر الحرام، ومن ثمّ الإتجاه إلى مِنى دون أن يكون لأحد امتياز على آخر (ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس). الإفاضة التي تأمر بها الآية هي الإفاضة من المشعر الحرام إلى مِنى، لأنّها جاءت بعد ذكر الإفاضة من عرفات إلى المشعر،ومسبوقة بـ "ثمّ" التي تفيد الترتّب الزماني، ويكون مدلول الآيتين معاً الأمر بالوقوف الجماعي بعرفات، ثمّ الإفاضة منها إلى المشعر الحرام، ومن ثمّ إلى مِنى. (واستغفروا الله). والأمر بالإستغفار في اختتام الآية حثّ على ترك تلك الأوهام والأفكار الجاهلية، والإتجاه نحو تعلّم دروس الحجّ في المساواة، و (إنّ الله غفور رحيم). 4- ارتباط الآيات: قد يتساءل أحد عن الرّابطة بين قوله تعالى (ابتغاء فضل الله) و مسألة الوقوف بعرفات والإفاضة منها إلى المشعر الحرام وثمّ إلى مِنى الّتي وردت الآية الشريفة منضمّة بعضها إلى بعض. يمكن أن تكون الرّابطة هي الإشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ السعي المادي والإقتصادي إذا كان لله ومن أجل الحياة الشريفة فيكون هذا نوع من العبادة حال مناسك الحجّ، أو أنّ حركة وانتقال الحجّاج من مكّة إلى عرفات ومنها إلى المواقف الاُخرى يستلزم عادةً نفقات وخدمات كبيرة، فلو كان كلّ نوع من العلم والكسب في هذه الأيّام محرّم على الحجّاج فمن الواضح أنّهم سيقعون في حرج ومشقّة، فلهذا ذكرت الآية الشريفة هذه العبارات منضمّة ومتتالية. أو يقال أن المفهوم منها هو أنّ الآية تحذّر الحجّاج أن لا يُنسيكم العمل والكسب وسائر الفعاليّات الإقتصادية ذكر الله والتوجّه إليه وإدراك عظمته في هذه المواقف الشريفة. ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ﴾ يا معشر قريش ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ من عرفات وكان قريش يقفون بجمع ولا يقفون مع سائر الناس بعرفات ترفعا عليهم فأمروا بمساواتهم فثم لتفاوت ما بين الإفاضتين إذ تلك حرام وهذه واجبة وقيل من جمع إلى منى بعد الإفاضة من عرفات إليها والأمر عام ويراد بالناس إبراهيم والأنبياء وهو الأنسب بثم والسوق ﴿وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ﴾ من جاهليتكم عند الإفاضة إلى المشعر أو من ذنوبكم ﴿إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.