لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي النهاية وللتأكيد أكثر بالنسبة للعقوبات التي كان يوعدهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بها وكانوا ينتظرونها حتّى أنّهم يقولون: لماذا لا تصبح هذه الوعود عملية؟ يقول تعالى (وإن ما نرينّك بعض الذي نعدهم (من إنتصارك عليهم وهزيمتهم وتحرير أتباعك وأسر أتباعهم في حياتك) أو نتوفينّك فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب). نقطتان يجب الإنتباه إلى هاتين النقطتين: 1 - لوح المحو والإثبات واُمّ الكتاب مع أنّ جملة (يمحو الله ما يشاء...) نزلت في مجال المعاجز والكتب السّماوية إلى الأنبياء، لكنّها تبيّن قانوناً عامّاً وشاملا وقد اُشير إليه في مختلف المصادر الإسلامية، وهو أنّ تحقّق وصيرورة الحوادث المختلفة للعالم لها مرحلتين: الأُولى المرحلة القطعيّة أو الثابتة، ولا سبيل للتغيير فيها (والتي أشارت إليها الآية أعلاه باُمّ الكتاب) والأُخرى المرحلة المتغيّرة أو بعبارة أُخرى "المشروطة" والتي يجد التغيير سبيلا إليها، وقد عبّر عنها بالمحو والإثبات. وأحياناً يُقال عن المرحلتين: "اللوح المحفوظ" و "لوح المحو والإثبات" كأنّ ما كُتب في اللوح الأوّل محفوظ لا يتغيّر، أمّا الثّاني فمن الممكن محو ما كتب فيه وتغييره. وأمّا حقيقة الأمر فإنّنا - أحياناً - ننظر إلى الحوادث بأسباب وعلل ناقصّة، فمثلا إذا أخذنا بنظر الإعتبار السمّ الذي بمقتضى طبعه يؤدّي إلى قتل الإنسان وكلّ من يتناوله سوف يموت، بدون علم مسبق أنّ لهذا السمّ ترياق آخر ضدّه لو شربناه بعده سوف يبطل مفعول الأوّل (وقد نكون على علم به لكن لا نريد أن نتحدّث لسبب أو لآخر عن الترياق) لاحظوا هنا أنّ هذه الحادثة (الموت بسبب إستعمال السمّ) ليس لها جانب قطعي، وببيان آخر إنّ مكانها في (لوح المحو والإثبات) ويجد التغيير سبيلا إليه بالنظر إلى الأسباب الأُخرى المرتبطة به. ولكن لو نظرنا إلى الحادثة من خلال العلّة التامّة لها، يعني توفّر الشروط اللازمة وإزالة الموانع (إستعمال السمّ بدون إستعمال الترياق) تكون الحادثة هنا قطعيّة وببيان آخر: إنّ مكانها في)اللوح المحفوظ واُمّ الكتاب) ولا سبيل للتغيير فيها. ويمكن أن نوضّح هذا الحديث بشكل آخر، وهو: إنّ للعلم الإلهي مرحلتين (علم بالمقتضيات والعلل الناقصّة) و (علم بالعلل التامّة) فما إرتبط بالمرحلة الثانية نعبّر عنها بـ(اُمّ الكتاب واللوح المحفوظ) وما إرتبط بالمرحلة الأُولى نعبّر عنها بـ(لوح المحو والإثبات) وإلاّ فليس اللوح موضوعاً في زاوية من السّماء حتّى يكتبوا أو يمحوا فيه شيئاً ويثبتوا بدله شيئاً آخر. ومن هنا تتضّح الإجابة على كثير من الأسئلة في ضوء ما ورد في المصادر الأصليّة في الإسلام، لأنّنا نقرأ مرّةً في الرّوايات أو بعض الآيات القرآنية، أنّ العمل الفلاني له الأثر الكذائي، لكنّنا في بعض الأحيان لا نرى هذه النتيجة، وذلك بسبب أنّ تحقّق تلك النتيجة يعتمد على شرائط أو موانع لم تتحقّق. وهناك روايات كثيرة في باب (اللوح المحفوظ) و (لوح المحو والإثبات) وعلم الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وعلى سبيل المثال نذكر قسماً منها: 1 - أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي (عليه السلام) أنّه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية فقال له: "لأقرنّ عينيك بتفسيرها ولأقرنّ عين اُمّتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، وإصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء"(3). وهذه إشارة إلى أنّ الشقاء والسعادة ليست أُموراً حتمية، حتّى إذا إرتكب الإنسان إثماً وعدّ من الأشقياء فإنّ بإستطاعته أن يُغيّر من سلوكه ويتّجه صوب الخير، وخصوصاً مساعدة وخدمة عباد الله، لأنّ هذه الأُمور مكانها في (لوح المحو والإثبات) لا (اُمّ الكتاب). ويجب الإلتفات إلى أنّ ما جاء في هذا الحديث يبيّن قسماً من مفهوم الآية. 2 - عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "من الأُمور اُمور محتومة كائنة لا محالة، ومن الأُمور اُمور موقوفة عند الله يقدّم فيها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء"(4). وعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: "لولا آية في كتاب الله لحدثّتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فقلت له: أيّة آية؟ فقال: قال الله (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب)(5). وهذا الحديث دليل على أنّ اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات بكلّ خصوصياتها مختصّة بالله جلّ وعلا، وهناك قسمٌ منها يُعلم بها الخواص من عباده إذا إقتضت الضرورة. ونقرأ في أدعية ليالي شهر رمضان المبارك: "وإن كنت من الأشقياء فاكتبني عندك من السعداء". وعلى أيّة حال فالمحو والإثبات بهذا الشكل الذي قلناه له معنىً جامع يشمل كلّ تغيير في الحال بسبب تغيير الشروط وحدوث الموانع، وأمّا ما قاله بعض المفسّرين من أنّ هذه الجملة إشارة إلى مسألة محو الذنوب بسبب التوبة، أو زيادة ونقصان الرزق على أثر تغيير الشروط، ليس صحيحاً، إلاّ إذا اعتبروها واحداً من مصاديقها. 2 - ما هو البداء؟ "البداء" أحد البحوث العويصة بين الشيعة والسنّة. يقول الرازي في تفسيره الكبير في ذيل الآية - محلّ البحث ـ: "يعتقد الشيعة أنّ البداء جائز على الله، وحقيقة البداء عندهم أنّ الشخص يعتقد بشيء ثمّ يظهر له خلاف ذلك الإعتقاد، ولإثبات ذلك يتمسكون بالآية (يمحو الله ما يشاء ويثبت)ثمّ يضيف الرازي: إنّ هذه العقيدة باطلة، لأنّ علم الله من لوازم ذاته، ومحال التغيير والتبديل فيه". وممّا يؤسف له حقّاً عدم المعرفة بعقيدة الشيعة في مسألة البداء أدّت إلى أن ينسب كثيرون تهماً غير صحيحة إلى الشيعة الإماميّة. ولتوضيح ذلك نقول: "البداء" في اللغة بمعنى الظهور والوضوح الكامل، وله معنىً آخر هو الندم، لأنّ الشخص النادم قد ظهرت له - حتماً - اُمور جديدة. لا شكّ، إنّ هذا المعنى الأخير بالنسبة إلى الله تعالى مستحيل، ولا يمكن لأي عاقل وعارف أن يحتمل أنّ هناك اُموراً خافية على الله ثمّ تظهر له بمرور الأيّام، فهذا القول هو الكفر بعينه، ولازمه نسبة الجهل وعدم المعرفة إلى ذاته المقدّسة، وأنّ ذاته محلاًّ للتغيير والحوادث. وحاشا للشيعة الإماميّة أن يحتملوا ذلك بالنسبة لذات الله المقدّسة! إنّ ما يعتقده الشيعة من معنى البداء ويصرّون عليه، هو طبقاً لما جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام): ما عرف الله حقّ معرفته من لم يعرفه بالبداء. كثيراً ما يكون - وطبقاً لظواهر العلل والأسباب - أن نشعر أنّ حادثة ما سوف تقع أو أنّ وقوع مثل هذه الحادثة قد أخبر عنه النّبي، في الوقت الذي نرى أنّ هذه الحادثة لم تقع، فنقول حينها: إنّ "البداء" قد حصل، وهذا يعني أنّ الذي كنّا نراه بحسب الظاهر سوف يقع وإعتقدنا تحقّقه بشكل قاطع قد ظهر خلافه. والأصل في هذا المعنى هو ما قلناه في بحثنا السابق، وهو أنّ معرفتنا مرّةً تكون فقط بالعلل الناقصّة، ولا نرى الشروط والموانع ونقضي طبقاً لذلك، ولكن بعد أن نواجه فقدان الشرط أو وجود المانع ويتحقّق خلاف ما كنّا نتوقّعه سوف ننتبه إلى هذه المسائل. وكذلك قد يعلم النّبي أو الإمام باُمور مكتوبة في لوح المحو والإثبات القابل للتغيير طبعاً، فقد لا تتحقّق أحياناً لمواجهتها بالموانع وفقدان الشروط. ولكي تتّضح هذه الحقيقة لابدّ من مقايسة بين "النسخ" و "البداء": نحن نعلم أنّ النسخ جائز عند جميع المسلمين، يعني من الممكن أن ينزل حكم في الشريعة فيتصوّر الناس أنّ هذا الحكم دائمي، لكي بعد مدّة يعلن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تغيير هذا الحكم وينسخه، ويحلّ محلّه حكماً آخر (كما قرأنا في حادثة تغيير القبلة). إنّ هذا في الحقيقة نوع من "البداء" ولكن في القضايا التشريعيّة والقوانين والأحكام يسمّونه بـ"النسخ" وفي الأُمور التكوينيّة يسمّى بـ"البداء" ويقال أحياناً: (النسخ في الأحكام نوع من البداء، والبداء في الأُمور التكوينيّة نوع من النسخ). فهل يستطيع أحد أن ينكر هذا الأمر المنطقي؟ إلاّ إذا كان لا يفرّق بين العلّة التامّة والعلل الناقصّة، أو كان واقعاً تحت تأثير الدعايات المغرضة ضدّ شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يجيز له تعصّبه الأعمى أن يطالع عقائد الشيعة من نفس كتبهم، والعجيب أنّ الرازي قد ذكر مسألة "البداء" عند الشيعة في ذيل الآية (يمحو الله ما يشاء ويثبت) بدون أن يلتفت إلى أنّ البداء ليس أكثر من المحو والإثبات، وهجم على الشيعة بعصبيته المعروفة وإستنكر عليهم قولهم بالبداء. اسمحوا لنا هنا أن نذكر أمثلة مقبولة عند الجميع: 1 - نقرأ في قصّة "يونس" أنّ عدم طاعة قومه أدّت إلى أن ينزل العذاب الإلهي عليهم، وقد تركهم النّبي لعدم هدايتهم وإستحقاقهم العذاب، لكن فجأةً وقع البداء حيث رأى أحد علمائهم آثار العذاب، فجمعهم ودعاهم إلى التوبة، فقبل الجميع ورفع العذاب (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتّعناهم إلى حين)(6). 2 - وجاء في التأريخ الإسلامي أنّ السيّد المسيح (عليه السلام) أخبر عن عروس أنّها سوف تموت في ليلة زفافها، لكنّها بقيت سالمة! وعندما سألوه عن الحادثة قال: هل تصدّقتم في هذا اليوم؟ قالوا: نعم. قال: الصدقة تدفع البلاء المبرم(7)!. لقد أخبر السيّد المسيح (عليه السلام) عن هذه الحادثة بسبب إرتباطه بلوح المحو والإثبات، في الوقت الذي كانت هذه الحادثة مشروطة (مشروطة بأن لا يكون هناك مانع مثل الصدقة) وبما أنّها واجهت المانع أصبحت النتيجة شيئاً آخر. 3 - ونقرأ في قصّة إبراهيم (عليه السلام) - محطّم الأصنام - في القرآن الكريم أنّه أُمر بذبح إسماعيل، وذهب بإبنه إلى المذبح وتلّه للجبين، فعندما أظهر إسماعيل إستعداده للذبح ظهر البداء الإلهي وظهر أنّ هذا الأمر إمتحان لكي يرى الله تعالى مستوى الطاعة والتسليم عند إبراهيم (عليه السلام). 4 - ونقرأ في سيرة موسى (عليه السلام) أنّه أُمر أن يترك قومه أوّلا ثلاثين يوماً ويذهب إلى مكان الوعد الإلهي لإستلام أحكام التوراة، لكن المدّة زادت عليها عشرة أيّام أُخرى (وذلك إمتحاناً لبني إسرائيل). هنا يأتي هذا السؤال: ما هي الفائدة من هذه البداءات؟ الجواب على هذا السؤال ليس صعباً بالنظر إلى ما قلناه سابقاً، لأنّه تحدث مسائل مهمّة - أحياناً - مثل إمتحان شخص مع قومه، أو تأثير التوبة والرجوع إلى الله (كما في قصّة يونس) أو تأثير الصدقة ومساعدة المحتاجين وعمل الخير، كلّ ذلك يؤدّي إلى دفع الحوادث المفجعة وأمثالها، وهذا يعني أنّ الحوادث المستقبلية قد نُظِّمَت بشكل خاص ثمّ تغيّرت الشرائط فأصبحت شيئاً آخر، حتّى يعلم الناس أنّ مصيرهم بأيديهم، وهم قادرون أن يغيّروا مصيرهم من خلال تغيير سيرتهم وسلوكهم، وهذه أكبر فائدة نلمسها من البداء "فتدبّر". فما ورد من أنّ أحداً إذا لم يعرف الله بالبداء لم يعرفه معرفةً كاملة، فهي إشارة لتلك الحقائق. عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "ما بعث الله عزّوجلّ نبيّاً حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء"(8). وفي الحقيقة إنّ أوّل عهد مرتبط بالطاعة والتسليم لله. وثاني عهد محاربة الشرك، والثّالث مرتبط بمسألة البداء، ونتيجته أنّ مصيره بيده، فيستطيع أن يغيّر الشروط فيشمله اللطف أو العذاب الإلهي. الملاحظة الأخيرة في هذا المجال... يقول علماء الشيعة: إنّنا حينما ننسب البداء إلى الله جلّ وعلا فإنّه يكون بمعنى "الإبداء" بمعنى إظهار الشيء الذي لم يكن ظاهراً لنا من قبل ولم يكن متوقّعاً. وإنّ ما ينسب إلى الشيعة بأنّهم يعتقدون أنّ الله يندم على عمله أحياناً، أو يخبر عن شيء لم يعلمه سابقاً، فهذه من أكبر التُّهم ولا يمكن الصفح عنها أبداً. لذلك نقل عن الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم قالوا: "من زعم أنز الله عزّوجلّ يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرئوا منه"(9). ﴿وَإِن مَّا﴾ إن الشرطية أدغمت في ما الزائدة ﴿نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب في حياتك ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل ذلك ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾ فحسب ﴿وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ والجزاء.