التّفسير
الخروج من الظّلمات إلى النّور!
شرعت هذه السورة - كبعض السور القرآنية الأُخرى - بالحروف المقطّعة، التي ذكرنا تفسيرها في بداية سورة البقرة وآل عمران، والنقطة التي يجب ملاحظتها هنا أنّ من بين 29 مورداً لسور القرآن التي إبتدأت بالحروف المقطّعة هناك 24 مورد ذكر بعدها مباشرةً القرآن الكريم، والتي تُبيّن أنّ هناك علاقة بين الإثنين، أي بين الحروف المقطّعة والقرآن، ولعلّ هذه العلاقة هي نفسها التي ذكرناها في بداية سورة البقرة، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوضّح من خلال هذا البيان أنّ هذا الكتاب السّماوي العظيم المتعّهد لقيادة الإنسانيّة يتكوّن من مواد بسيطة تسمّى بحروف الألفباء، وهذه تشير إلى أهميّة هذا الإعجاز، حيث يوجد أصدق بيان من أبسط بيان.
وعلى أيّة حال فبعد ذكر الحروف (ألف لام راء) يقول تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظّلمات إلى النّور).
في الواقع إنّ جميع الأهداف التربوية والإنسانية، المعنوية والمادية من نزول القرآن قد جُمعت في هذه الجملة (الخروج من الظّلمات إلى النّور) أي الخروج من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، ومن ظلام الكفر إلى نور الإيمان، من ظلم الظالمين إلى نور العدالة، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الذنوب إلى الطهارة والتقوى، ومن التفرقة والنفاق إلى نور الوحدة.
ومن الطريف أنّ "الظّلمات" هنا (كما في بعض السور الأُخرى) جاءت بصيغة الجمع و "النّور" بصيغة المفرد، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ الحسنات والطيّبات والإيمان والتقوى لها حالة واحدة في ظلّ التوحيد ونوره، فهي مترابطة ومتّحدة فيما بينها، فتصنع مجتمعاً واحداً متّحداً وطاهراً من كلّ جهة.
بينما الظّلمات تعني التشتّت وتفرقة الصفوف، وحتى الطواغيت والمذنبين والمفسدين والمنحرفين في مسيرتهم الإنحرافية نراهم غير متوحّدين غالباً، وفي حالة حرب فيما بينهم.
ومن هنا لمّا كان مصدر كلّ الخير هي الذات الإلهيّة المقدّسة، والشرط الأساس لدرك التوحيد هو الإلتفات إلى هذه الحقيقة، فإنّه يضيف بلا فاصلة (بإذن ربّهم).
ولكي يبيّن أكثر ما هو النّور يقول تعالى: (إلى صراط العزيز الحميد)(1)فعزّته دالّة على قدرته، لأنّه لا يستطيع أحد أن يغلبه، والحميد دالّة على نعمه ومواهبه غير المتناهية، لأنّ الحمد والثناء دائماً تكون في مقابل النعم والمواهب.
﴿الَر كِتَابٌ﴾ هذا القرآن أو السورة كتاب ﴿أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ من الضلال إلى الهدى ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ بأمره ﴿إِلَى صِرَاطِ﴾ طريق ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾.