ثمّ يُعرّف القرآن الكريم الكفّار في الآية الأُخرى، ويذكر لهم ثلاث صفات كيما نستطيع أن نعرّفهم من أوّل وهلة، يقول تعالى أوّلا: (الذين يستحبّون الحياة الدنيا على الآخرة)(3) فهم يضحّون بالإيمان والحقّ والعدالة والشرف التي هي من خصائص محبّي الآخرة، من أجل منافعهم الشخصيّة وشهواتهم.
ثمّ يبيّن تعالى أنّ هؤلاء غير قانعين بهذا المقدار من الضلال، بل يسعون في أن يضلّوا الآخرين (ويصدّون عن سبيل الله) فهم في الواقع يوجدون الموانع المختلفة في طريق الفطرة الإلهيّة فيزيّنون الهوى، ويدعون الناس إلى الذنوب، ويخوّفونهم من الصدق والإخلاص.
ولا يقتصر عملهم على ذلك فحسب، بل (ويبغونها عوجاً) ثمّ يحاولون أن يصبغوا الآخرين بصبغتهم، ويسعون في أن يحرفوا السبيل للوصول إلى هدفهم من خلال نشر الخرافات وإبتداع السنن الخبيثة (أُولئك في ضلال بعيد).
وهذا الضلال قد أوجد بُعد المسافة بينهم وبين الحقّ فكان من العسير جدّاً عودتهم إلى طريق الحقّ، ولكن ذلك كان نتيجة لأعمالهم.
ملاحظات
1 - مثل الإيمان وطريق الله مثل النّور
بالنظر إلى أنّ النّور ألطف الموجودات الماديّة في العالم، وسرعة مسيره أعلى سرعة، وبركته من أكبر البركات، ويمكن أن يقال أنّه أصل لكلّ المواهب والبركات، فإنّه يتّضح إلى أي مدى يشتمل النّور على معنىً كبير بحيث أنّ القرآن شبّه الإيمان والسير في طريق الله بالنّور.
والنّور أصل التجمّع بينما الظلمة عامل للتفرّق، النّور علامة الحياة والظلمة علامة الموت.
ولهذا السبب شبّه القرآن الكريم كثيراً من الأُمور القيّمة بالنّور، ومن جملتها العمل الصالح (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم)(4).
وكذلك الإيمان والتوحيد، قال تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور)(5).
وقد شبّه القرآن الكريم بالنّور في قوله تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتّبعوا النّور الذي اُنزل معه أُولئك هم المفلحون)(6).
وكذلك الدين (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم).(7)
بل أكثر من ذلك عبّر عن ذاته المقدّسة التي هي أفضل وأسمى ما في الوجود بالنّور (الله نور السّماوات والأرض).(8)
ومع أنّ كلّ هذه الأُمور تعود إلى تلك الحقيقة، لأنّها من الله، ومن الإيمان به، فإنّها وردت بصيغة المفرد، وعلى عكس الظّلمات التي هي عامل التشتّت لذلك وردت بصيغة الجمع التي تبيّن الكثرة والتعدّد.
وبما أنّ الإيمان بالله والسير في طريقه باعث على الحركة وموجباً لليقظة، وعامل للإجتماع والوحدة، ووسيلة للتقدّم والكمال، فإنّ هذا التشبيه على كلّ حال أكثر محتوىً ودلالة تربوية.
2 – ما المقصود من جملة التخرج
التعبير بـ"لتخرج" في الآية الأُولى تشير إلى نقطتين:
الأُولى: بما أنّ القرآن الكريم كتاب هداية ونجاة للبشر، لكنّه بحاجة إلى من يطبقه ويجريه، فيجب أن يكون هناك قائد كالرّسول لكي يستطيع أن يخرج الضالّين عن الحقيقة من ظلمات الشقاء وهدايتهم إلى نور السعادة، ولهذا فالقرآن الكريم بعظمته لا يمكن له أن يحلّ جميع المشاكل بدون وجود القائد والمنفّذ لهذه الأحكام.
الثانية: إنّ صيغة الإخراج في الواقع دليل على التحرّك المشفوع بالتغيّر والتحوّل، وكأنّ غير المؤمنين موجودون في محيط مغلق ومظلم، والرّسول - أو القائد - يأخذ بأيديهم ويدخلهم إلى جوٍّ واسع ومنير.
3 –الهداية والانذار في هذه السورة
الملفت للنظر أنّ بداية هذه السورة شرعت بمسألة هداية الناس من الظّلمات إلى النّور، ونهايتها خُتِمت بمسألة إبلاغ وإنذار الناس، وهذه توضّح أنّ الهدف الأصلي في كلّ الأحوال هو الناس ومصيرهم وهدايتهم، فإنزال الكتب السّماوية وبعث الأنبياء في الواقع هو للوصول إلى هذا الهدف.
﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ يؤثرونها ﴿عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ﴾ الناس ﴿عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ دينه ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ يطلبون لها زيغا فحذفت اللام وأوصل الفعل ﴿أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ عن الحق.