3 - فهذا المجرم المذنب عندما يرى نفسه في مقابل هذا الشراب (يتجرّعه ولا يكاد يسيغه) يسيغه: من إساغة، وهي وضع الشراب في الحلق.
4 - ووسائل التعذيب كثيرة بحيث (ويأتيه الموت من كلّ مكان وما هو بميّت).
حتّى يذوق وبال عمله وسيّئاته.
5 - وقد يتصوّر أن ليس هناك عقاباً أكثر من ذلك، ولكن (ومن ورائه عذاب غليظ).
وبهذا الترتيب فإنّ كلّ ما يخطر في ذهن الإنسان وما لا يخطر من شدّة العقاب هو في إنتظار هؤلاء الظالمين والجبّارين والمذنبين، أسوؤها الشراب المتعفّن الكريه، والعقوبات المختلفة من كلّ طرف، وفي نفس الوقت عدم الموت، بل الإستمرار في الحياة وإدامة العذاب.
ولكن لا يتصوّر أنّ هذا العقاب غير عادل، لأنّه - وكما قلنا مراراً - النتيجة الطبيعيّة لعمل الإنسان، بل تجسيم أفعالهم في الآخرة، فكلّ عمل يجسّم بشكل مناسب، وإذا ما شاهدنا جنايات بعض المجرمين في عصرنا أو في التاريخ القديم لقلنا: حتّى هذه العقوبات قليلة.
بحوث
1 - ماذا يعني مقام الربّ؟
قرأنا في الآيات أعلاه أنّ النصر على الظالمين وإسكان الأرض للذين يخافون مقام ربّهم، فما هو المقصود من "المقام"؟ هناك عدّة إحتمالات:
الف: - المقصود هو مقام الربّ عند الحساب، كما ذكرت بعض الآيات الأُخرى (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى...)، (5) (ولمن خاف مقام ربّه جنّتان). (6)
باء: - المقام بمعنى القيام أي المراقبة، ومعناه الشخص الذي يخاف من مراقبة الله له، ويحسّ بالمسؤولية.
ج: - والمقام بمعنى "القيام لإجراء العدالة وإحقاق الحقّ".
وعلى أيّة حال، فلا مانع أن تكون الآية الشريفة متضمنّة لكلّ هذه المفاهيم، فالذين يرون مراقبة الله لهم، يخافون من حسابه وإجراء عدالته، خوفاً بنّاء يجعلهم يحسّون بمسؤولياتهم في كلّ عمل يقومون به، ويبعدهم عن الظلم والذنوب، فالغلبة وحكومة الأرض من نصيبهم.
2 - هناك جدل بين المفسّرين حول جملة "واستفتحوا" حيث إعتقد البعض بأنّها بمعنى طلب الفتح والنصر، كما ذكرناه سابقاً، وشاهدهم الآية (19) من سورة الأنفال (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح).
وقال بعض آخر: إنّها بمعنى القضاء والحكومة، يعني أنّ الأنبياء طلبوا من الله أن يحكم بينهم وبين الكفّار، وشاهدهم الآية (89) من سورة الأعراف (ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين).
3 - جاء في التأريخ والتّفسير أنّ الوليد بن يزيد بن عبدالملك الحاكم الاُموي الجبّار تفألّ بالقرآن يوماً لكي يرى حظّه في المستقبل، فظهرت قوله تعالى (واستفتحوا وخاب كلّ جبّار عنيد) في بداية الصفحة، فاستوحش وأخذته العصبية بحيث مزّق القرآن الكريم ثمّ أنشد:
أتوعد كلّ جبّار عنيد؟ ***** فها أنا ذاك جبّار عنيد؟
إذا ما جئت ربّك يوم حشر ***** فقل ياربّ مزّقني الوليد
ولكن لم يمض وقت طويل حتّى قُتل أسوأ قتلة من قبل أعدائه، وقطعوا رأسه وعلّقوه فوق سطح قصره، ومن ثمّ نقلوه إلى باب المدينة(7).
﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ يشربه جرعة جرعة ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ لا يقارب أن يزدرده لشؤمه ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ﴾ أي أسبابه ﴿مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ من جسده أو من كل جهة ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ فيستريح ﴿وَمِن وَرَآئِهِ﴾ أمامه ﴿عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ هو الخلود في النار أو من بعدها عذاب أشد منه.