ثمّ يشير القرآن الكريم إلى موقف آخر من مواقف القيامة والعقاب النفسي للجبّارين والمذنبين وأتباعهم الشياطين، حيث يقول تعالى: (وقال الشيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم) وبهذا الترتيب فالشيطان وجميع المستكبرين الذين هم قادة طرق الضلال، أصبحوا يلومون ويوبّخون تابعيهم البؤساء.
ثمّ يضيف (وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي)ويستمرّ في القول (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم).
أنتم فعلتم فاللعنة عليكم!!
وعلى كلّ حال فلا أنا أستطيع إنقاذكم من العذاب ولا أنتم تستطيعون إنقاذي: (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) والآن اُعلمكم بأنّي أتبرّأ من شرككم وإطاعتكم لي (إنّي كفرت بما أشركتمون من قبل) فقد فهمت الآن أنّ الشرك في الطاعة أدّى إلى شقائي وشقائكم، وهذه التعاسة ليس لها طريق للنجاة، واعلموا (إنّ الظالمين لهم عذاب أليم).
بحوث
1 - جواب الشيطان الحاسم لأتباعه
مع أنّ كلمة "الشيطان"(3) لها مفهوم واسع وتشمل كلّ الطواغيت ووساوس الجنّ والإنس، ولكن في قراءتنا لهذه الآية وما قبلها علمنا أنّ المقصود هنا هو شخص إبليس الذي يعتبر رئيساً للشياطين، ولذلك إنتخب جميع المفسّرين هذا التّفسير أيضاً.
ونستفيد بشكل أكيد من هذه الآية أنّ وساوس الشيطان لا تسلب الإنسان إختياره وحرية إرادته، بل هي مجرّد دعوة ليس أكثر، فالناس هم الذين يلبّون دعوته بإرادتهم، وقد تصل الأرضيّة السابقة والدوام على الخلاف بالإنسان إلى حالة من سلب الإختيار في مقابل وساوسه، كما نشاهد بعض المدمنين على المخدرات، ولكن نعلم أنّ السبب الأوّل كان هو الإختيار.
يقول تعالى في الآية (100) من سورة النحل: (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون).
وعلى هذا فالشيطان يجيب بشكل قاطع على الذين يعتبرونه العامل الأوّل في إنحرافهم وضلالهم، وما يقوله بعض الجهلاء لتبرئتهم من ذنوبهم، فإنّ السلطان الحقيقي على الإنسان هو إرادته وعمله ولا شيء غيره.
2 - كيف إستطاع الشيطان أن يلتقي باتّباعه ويلومهم في ذاك الموقف الكبير؟
الجواب: هو أنّ الله تعالى يمنحه القدرة على ذلك، وهذا في الواقع نوع من العقاب النفسي لأتباع الشيطان، وإنذار لكلّ السائرين في طريقه في هذه الدنيا، لكي يعلموا من الآن مصيرهم ومصير قادتهم، وعلى أيّة حال فالله تعالى بطريقة ما يهيىء وسيلة الإرتباط بين الشيطان وأتباعه.
ومن الطّريف أنّ هذه المواجهة غير منحصرة بالشيطان وأتباعه، بل إنّ جميع أئمّة الضلالة في هذا العالم لهم نفس البرنامج أيضاً، يأخذون بأيدي أتباعهم (بموافقتهم طبعاً) ويذهبون بهم إلى أمواج العذاب والبلاء، وحينما يرون الأوضاع سيّئة يتركونهم وشأنهم حتّى إنّهم يلومونهم ويوبّخونهم في خسران الدنيا والآخرة.
3 - "المصرخ" من مادّة "إصراخ" وفي الأصل من مادّة "صرخ"، وهي بمعنى الإغاثة وطلب المساعدة، ولذلك فالمصرخ بمعنى المغيث، والمستصرخ طالب الإستغاثة.
4 - القصد من إتّخاذ الكفّار الشيطان شريكاً في الآية أعلاه شرك الطاعة وليس شرك العبادة.
5 - في أنّ جملة (إنّ الظالمين لهم عذاب أليم) تابعة لحديث الشيطان أم كلام مستقل من الله تعالى، هناك آراء مختلفة عند المفسّرين، لكن التّفسير الأقرب هو أنّ الجملة مستقلّة ومن كلام الله حيث قالها في نهاية حديث الشيطان مع أتباعه لتكون درساً تربويّاً.
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ﴾ فرغ منه ودخل السعداء الجنة والأشقياء النار ﴿إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ بالبعث والجزاء فوفى لكم ﴿وَوَعَدتُّكُمْ﴾ خلاف ذلك ﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ الوعد ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ﴾ تسلط وقهر فأجبركم ﴿إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ﴾ لكن دعائي إياكم إليه بالوسوسة ﴿فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ باختياركم ﴿فَلاَ تَلُومُونِي﴾ بدعائي لكم ﴿وَلُومُواْ أَنفُسَكُم﴾ حيث أجبتم ويدل على الاختيار وفيه رد على الجبرية والأشاعرة ﴿مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ﴾ بمغيثكم ﴿وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ بمغيثي بفتح الياء وكسرها ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ بإشراككم إياي مع الله في الدنيا ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ من قوله أو ابتداء وعيد من الله تعالى.