لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يشير القرآن إلى شكر إبراهيم (عليه السلام) لنعمه تعالى والتي هي من أهمّ ما إمتاز به (عليه السلام)... شكره على منحه ولدين بارّين إسماعيل وإسحاق وذلك في سنّ الشيخوخة (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق)(1) نعم (إنّ ربّي لسميع الدعاء). ثمّ يستمرّ بدعاءه ومناجاته أيضاً فيقول: (ربّ إجعلني مقيم الصلاة ومن ذريّتي ربّنا وتقبّل دعاء). ثمّ يختم دعاءه هنا فيقول: (ربّنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب). بحوث 1 - هل كانت مكّة في ذلك الوقت مدينة؟ رأينا في الآيات السابقة أنّ إبراهيم قال: (ربّ إنّي أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع) وهذه إشارة إلى أوّل دخوله أرض مكّة والتي كانت غير مزروعة ولا معمورة ولا ساكن فيها سوى أسّس بيت الله الحرام، ومجموعة من الجبال الجرداء. ولكنّنا نعلم أنّها لم تكن رحلته الوحيدة إلى مكّة، بل وطأت قدمه عدّة مرّات تلك الأرض، وفي الوقت نفسه كانت مكّة تأخذ طابع المدينة، وسكنتها قبيلة "جرهم" وبظهور عين زمزم أصبحت صالحة للسكن. والمعتقد أنّ أدعية إبراهيم هذه كانت في إحدى رحلاته، ولذلك عبّر عنها بالبلد، أي المدينة فقال: (ربّ اجعل هذا البلد آمناً). وأمّا قوله: (واد غير ذي زرع) فقد تكون إشارة إلى رحلته الأُولى أو إشارةً إلى أرض مكّة بعد أن أخذت طابع المدينة، فإنّها لا زالت غير صالحة للزراعة، لأنّها من الناحية الجغرافية تقع بين جبال يابسة وقليلة المياه. 2 - أمان أرض مكّة من الطريف أنّ أوّل ما سأل إبراهيم من ربّه في هذه الأرض هو الأمان، وهذا يوضّح أنّ نعمة الأمن هي من الشروط الأُولى لحياة الإنسان وسكنه في منطقة ما، فالمكان غير الآمن لا يمكن السكن فيه، حتّى لو إجتمعت كلّ النعم الدنيويّة فيه، وفي الحقيقة أي مدينة أو بلد فاقد لنعمة الأمن سوف يفقد جميع النعم! ولابدّ هنا من الإلتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ إستجابة الله لدعاء إبراهيم بخصوص أمن مكّة له جهتان: فمن جهة منحها أمناً تكوينيّاً، ولذلك لم تشهد في تاريخها إلاّ النزر القليل من إخلال الأمن، ومن جهة ثانية منحها الأمن التشريعي، أي أنّ الله أقرّ أن يأمن جميع الناس - وحتّى الحيوانات - في هذه الأرض. ومنع صيد الحيوانات، وعدم متابعة المجرمين الذين يلجأون إلى حرم الكعبة، ونستطيع - فقط - أن نمنع عليهم الغذاء لكي يخرجوا، ومن ثمّ تطبيق العدالة في حقّهم. 3 - دعاء إبراهيم لإجتناب عبادة الأصنام؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان نبيّاً معصوماً، وكذلك إبناه إسماعيل وإسحاق كانا نبيّين معصومين، لأنّهما داخلان في كلمة "بنيّ" في الآية قطعاً، ومع ذلك يدعو الله أن يجنّبهم عبادة الأصنام! وهذا دليل في التأكيد على محاربة عبادة الأصنام بحيث كان يطلب هذا الأمر من الله حتّى للأنبياء المعصومون ومحطّمو الأصنام، وهذا نظير إهتمام النّبي في وصاياه لعلي - أو الأئمّة الآخرين بالنسبة لأوصيائهم - في أمر الصلاة، والتي لا يمكن إحتمال تركها من قبلهم أبداً، بل إنّ الصلاة أساساً قامت ببركة سعيهم وجهودهم. وهنا يطرح هذا السؤال: كيف قال إبراهيم (ربّ إنّهنّ أظللن كثيراً من الناس) في حين أنّ الأصنام ليست سوى أحجاراً وخشباً ولا إستطاعة لهنّ في إضلال الناس. ويمكن الجواب على هذا السؤال من جهتين: أوّلا: لم تكن الأصنام من الأحجار والخشب دائماً، بل هناك الفراعنة وأمثال نمرود الذين كانوا يدعون الناس لعبادتهم ويسمّون أنفسهم بالربّ الأعلى والمحي والمميت. ثانياً: وأحياناً يكون القائمون بأمر الأصنام مظهرين تعظيمها وتزيينها بالشكل الذي تكون حقّاً مضلّة لعوام الناس. 4 - من هم أتباع إبراهيم؟ قرأنا في الآيات أنّ إبراهيم قال: (فمن تبعني فإنّه منّي) فهل أنّ أتباع إبراهيم من كان في عصره فقط، أم الذين كانوا على دينه في العصور اللاحقة، أو يشمل كلّ الموحدين والمؤمنين في العالم - بإعتبار إبراهيم (عليه السلام) مثالا في التوحيد ومحطّماً للأصنام ـ؟ نستفيد من الآيات القرآنية - ومن ضمنها الآية 78 من سورة الحج - أنّ دعاء إبراهيم يشمل جميع الموحدين والمجاهدين في طريق التوحيد. ويؤيّد هذا التّفسير ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً: فعن الباقر (عليه السلام) قال "من أحبّنا فهو منّا أهل البيت. قلت، جعلت فداك: منكم؟ قال منّا والله، أما سمعت قول إبراهيم (من تبعني فإنّه منّي)"(2). ويوضّح هذا الحديث صيرورة الفرد من أهل البيت معنوياً إن سار على خطّهم وتابع منهجهم. وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: "نحن آل إبراهيم، أفترغبون عن ملّة إبراهيم! وقد قال الله تعالى: (فمن تبعني فإنّه منّي)". 5 - واد غير ذي زرع والحرم الآمن الذين سافروا إلى مكّة يعلمون جيداً أنّها تقع بين جبال صخرية يابسة لا ماء فيها ولا كلأ، وكأنّ الصخور وضعت في أفران حارّة ثمّ صبّت في أماكنها. وفي نفس الوقت فهي أكبر مركز للعبادة وأقدم قاعدة للتوحيد على وجه المعمورة، وكذلك هي حرم الله الآمن. وهنا قد يرد هذا السؤال في أذهان الكثيرين وهو: لماذا جعل الله هذا المركز المهمّ في مثل هذه الأرض؟ يجيب الإمام علي (عليه السلام) على هذا السؤال من خلال أوضح العبارات وأجمل التعابير الفلسفيّة خطبته القاصعة حيث يقول: "وضعه بأوعر بقاع الأرض صخراً وأقلّ نتائق الدنيا مدراً... بين جبال خشنة ورمال دمثة... ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّات وأنهار وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتفّ البنا، متّصل القوى، بين برّة سمراء وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة ورياض ناظرة وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللا لعفوه"(3). 6 - الدعوات السبعة لإبراهيم دعا إبراهيم (عليه السلام) في هذه الآيات سبع دعوات في مجال التوحيد والمناجاة ومحاربة الأصنام وعبادتها ومحاربة الظالمين: أوّل هذه الدعوات هو أمان مكّة القاعدة العظيمة لمجتمع التوحيد (وما أعمق مغزى هذا الطلب). الثّاني: دعاؤه في الإجتناب عن عبادة الأصنام والتي هي الأساس والقاعدة لجميع العقائد والبرامج الدينيّة. الثّالث: دعاؤه في تمايل قلوب المؤمنين وإرتباطهم العاطفي بالنسبة لأبنائه والتابعين لدينه. دعاؤه الرابع: أن يرزقهم الله من أنواع الثمرات، لتكون عنواناً للشكر والإلتفات بشكل أعمق لخالق النعم. الدعاء الخامس: التوفيق لإقامة الصلاة والتي هي أقوى صلة بين الإنسان وربّه، ودعاؤه (عليه السلام) ليس له فقط، بل حتّى لأبنائه. دعاؤه السادس: قبول دعائه، ونحن نعلم أنّ الله يقبل الدعاء من مواقع الإخلاص والقلوب الطاهرة والأرواح السامية، وفي الواقع إنّ هذا الطلب من إبراهيم (عليه السلام) يحتوي ضمناً الحصول على القلب الطاهر والروح السامية. وآخر دعائه (عليه السلام): أن يشمله الله بلطفه ورحمته فيما إذا صدر منه ذنب أو خطيئة، وأن يرحم اُمّه وأباه وجميع المؤمنين في يوم القيامة. وبهذا الترتيب فإن دعواته تبدأ بالأمن وتنتهي بالعفو والغفران، ومن الطريف أنّه لم يطلبها لنفسه فقط، بل للآخرين كذلك، لأنّ عباد الرحمن ليسوا أنانيّين! 7 - هل يدعو إبراهيم لأبيه؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ "آزر" كان يعبد الأصنام، وكما يشير إليه القرآن فإنّ إبراهيم سعى جاهداً لأن يهديه لكن خاب سعيه، وإذا سلّمنا أنّ آزر كان أباً لإبراهيم، فلماذا يدعو إبراهيم أن يغفر الله له في الوقت الذي نرى أنّ القرآن يقول: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم).(4) ومن هنا يتّضح أنّ آزر لم يكن أباً لإبراهيم، وأنّ كلمة أب تطلق أحياناً على العمّ، وكثيراً ما يستعملها العرب كذلك، بينما (الوالد) خاصّة بالأب الحقيقي والتي جاءت في الآيات أعلاه. أمّا كلمة أب والتي وردت بخصوص آزر فمن الممكن أنّ المراد بها العمّ. ونستنتج من الآيات أعلاه وممّا ورد في سورة التوبة من النهي عن الإستغفار للمشركين أنّ "آزر" لم يكن أباً لإبراهيم حتماً. (وللتوضيح أكثر راجع تفسير الآية 74 من سورة الأنعام و36 من سورة الأعراف في تفسيرنا هذا). ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ﴾ مع كبر السن واليأس من الولد ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾ ولد وله تسع وتسعون سنة ﴿وَإِسْحَقَ﴾ ولد وله مائة واثنتا عشرة ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء﴾ مجيبه.