ولهذا، نرى الآية التي تليها: (وإِنّ ربّك هو يحشر هم إنّه حكيم عليم) مرتبطة تماماً مع ما قبلها ومتممة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت... فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شيء.
فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شيء بالموت لكانت عملية الخلق عبثاً، وهذا غير معقول، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.
فالحكمة الإِلهية اقتضت من "حياة الدنيا أن تكون مرحلة استعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق"، وبتعبير آخر.
مقدمة لحياة أبدية خالدة.
وأمّا كونه سبحانه عليماً... فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة، وكذلك في اعماق وجود الانسان من جهة أُخرى، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.
وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.
بحث
مَنْ هم المستقدمون والمستأخرون؟
ذكر المفسّرون في تفسير (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) احتمالات كثيرة، فذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) ستة احتمالات، والقرطبي ثمانية احتمالات، وأبو الفتوح الرازي بحدود العشرة احتمالات، والملاحظة الدقيقة تظهر أنّه يمكن لنا أن نجمع كل ما ذكروه في تفسير واحد، لأن كلمة "المستقدمين" و"المستأخرين" لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها.
وإِذا ما أخذنا بهذا المعنى الجامع فيمكننا جمع كل الإِحتمالات الواردة في "تقدم" و"تأخر" المذكورتين في الآية في تفسير واحد.
وفيما روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحث على الإِشتراك في الصف الأوّل من صفوف صلاة الجماعة أنّه قال: "إنّ اللّه وملائكتة يصلون على الصف المتقدم" فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا: "لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم"، فنزلت هذه الآية.
(وأفهمتهم على أنّ اللّه تعالى عليم بنيّاتكم، فحتى لو كنتم في الصف الأخير فإنّه يكتب لكم ثواب الصف الأوّل حسب نيّتكم وعزمكم على ذلك).
فمحدودية شأن نزول الآية لا يكون أبداً سبباً لحصر مفهومها الواسع.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ﴾ للجزاء لا يقدر على ذلك سواه ﴿إِنَّهُ حَكِيمٌ﴾ في أفعاله ﴿عَلِيمٌ﴾ بكل شيء