لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير أنواع النعم المادية والمعنوية: يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى بعرض جملة أُخرى من النعم الإِلهية كدرس في التوحيد ومعرفة اللّه، وأوّل ما يشير في هذه الآيات المباركات إِلى نعمة العلم والمعرفة ووسائل تحصيله... ويقول: (واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً). فمن الطبيعي أنّكم في ذلك المحيط المحدود المظلم تجهلون كل شيء، ولكنْ عندما تنتقلون إِلى هذا العالم فليس من الحكمة أن تستمروا على حالة الجهل، ولهذا فقد زودكم الباري سبحانه بوسائل إِدراك الحقائق ومعرفة الموجودات (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). لكي يتحرك حس الشكر للمنعم في أعماقكم من خلال إِدراككم لهذه النعم الربانية الجليلة (لعلكم تشكرون). ملاحظات وهنا نطرح الملاحظات التالية: 1 - بداية الإِدراك عند الإِنسان تصرّح الآية بوضوح بأنّ الإِنسان حين يولد فإِنّه لا يدرك من الأشياء شيئاً، وكل ما يدركه إِنّما هو بعد الولادة وبواسطة الحواس التي منحه اللّه إِيّاه. ويواجهنا الإِشكال التالي: إِنّ الإِنسان مزود بجملة من العلوم الفطرية كالتوحيد ومعرفة اللّه، بالإِضافة إِلى بعض البديهيات مثل (عدم اجتماع النقيضين، الكل أكبر من الجزء، حسن العدل، قبح الظلم... الخ) وكل هذه العلوم قد أودعت في قلوبنا وتولدت معنا... فكيف يقول القرآن إِنّ الإِنسان حين يخرج من محيط الجنين ليس له من العلم شيئاً؟ وهل علمنا بوجودنا (والذي هو علم حضوري) لم يكن فينا وإِنّما نكتسبه عن طريق السمع والبصر والفؤاد؟ وللإِجابة على هذا الإِشكال، نقول: إِنّ العلوم البديهية والضرورية والفطرية لم تكن في الإِنسان بصورة فعلية حين ولادته، وإِنّما على شكل استعداد ووجود بالقوّة. وبعبارة أُخرى: إِنّنا عند الولادة نكون في غفلة عن كل شيء حتى عن أنفسنا التي بين جنبينا، إِلاّ أن مسألة إِدراك الحقائق تكمن فينا بصورة القوّة لا الفعل، وبالتدريج تحصل لأعيننا قوّة النظر ولآذاننا قوة السمع ولعقولنا القدرة على الإِدراك والتجزئة والتحليل، فننعم بهذه العطايا الإِلهية الثلاث التي بواسطتها نستطيع أن ندرك كثيراً من التصورات ونودعها في العقل لكي ننشيء منها مفاهيم كلية، ومن ثمّ نصل إِلى الحقائق العقلية بطريق (التعميم) و(التجريد). وتصل قدرتنا الفكرية إِلى إِدراك أنفسنا (باعتبارها علماً حضورياً) ومن ثمّ تتحرر العلوم التي أُودعت فينا قوةً لتصبح علوماً بالفعل، ونجعل بعد ذلك من العلوم البديهية والضرورية سلّماً للوصول إِلى العلوم النظرية وغير البديهية. وعلى هذا... فالعموم والكلية التي نطقت بها الآية (من أنّنا لا نعلم شيئاً عند الولادة) ليس لها استثناء ولا تخصيص. 2 - نعمة وسائل المعرفة ممّا لا شك فيه عدم امكانية استيعاب ودخول العالم الخارجي في وجودنا، والحاصل الفعلي هو رسم صورة الشيء الخارجي المراد في الذهن وبواسطة الوسائل المعينة لذلك، وعليه... فمعرفتنا بالعالم الخارجي تكون عن طريق أجهزة خاصّة منها السمع والبصر. وتنقل هذه الآلات والأجهزة كل ما تلتقطه من الخارج لتودعه في أذهاننا وعقولنا، ونقوم بواسطة العقل والفكر بعملية التجزئة والتحليل... ولذلك بيّنت الآية مسألة عدم علم الإِنسان المطلق حين الولادة: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) لكي تحصلوا على حقائق الوجود وتدركوها. ونشاهد تقديم ذكر السمع على البصر في الآية مع ما للعين من عمل أوسع من السمع، ولعل ذلك لسبق الأذن في العمل على العين بعد الولادة، حيث أنّ العين كانت في ظلام دامس (في رحم الأم) ونتيجة لشدّة أشعة النّور (بعد الولادة) فإِنّها لا تستطيع العمل مباشرة بسبب حساسيتها، وإِنّما تتدرج في اعتيادها على مواجهة النّور حتى تصل للحالة الطبيعية المعتادة، ولذا نجد الوليد في بداية أيّامه الأُولى مغلق العين. أمّا بخصوص الأذن... فثمة مَنْ يعتقد بأنّ لها القدرة على السماع (قليلا أو كثيراً) وهي في عالم الأجنّة وأنّها تسمع دقات قلب الأم وتعتاد عليها!! أضف إِلى ذلك أنّ الإِنسان إِنّما يرى بعينه الأشياء الحسيّة فقط، في حين أن الأذن تعتبر وسيلة للتربية والتعليم في جميع المجالات، فالإِنسان يصل بواسطة سماع الكلمات إلى معرفة جميع الحقائق سواء ما كان منها في دائرة الحس أو ما كان خارجها، وليس للعين هذه السعة، وصحيح أنّ الإِنسان يمكنه تحصيل العلم بواسطة القراءة، إِلاّ أنّ القراءة ليست عامّة لكل الناس وسماع الكلمات أمر عام. أمّا سبب ورود "السمع" بصيغة المفرد و"الأبصار" بصيغة الجمع، فقد بيّناه عند تفسيرنا للآية (رقم 7) من سورة البقرة. وثمّة ملاحظة أُخرى ينبغي ذكرها تتعلق بكلمة "الفؤاد"، فقد جاءت هنا بمعنى القلب (العقل) الذي يعيش حالة التوقد، وبعبارة أُخرى: يعيش حالة التّفسير والتحليل والإِبتكار. يقول الراغب في مفرداته: (الفؤاد كالقلب، لكنْ يقال له فؤاد إِذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد). ومن المسلّم به أن هذا الموضوع يحصل للإِنسان بعد حصوله على تجارب كافية. وعلى أية حال، فآلات المعرفة وإِن لم تنحصر بهذه الأجهزة الثلاث، إِلاّ أنّها أفضل الأجهزة جميعاً، لأنّ علم الإِنسان إِمّا أن يكون عن طريق التجربة أو عند طريق الإِستدلالات العقلية، ولا تجربة بدون السمع والبصر، ولا إِستدلالات عقلية من غير الفؤاد (العقل). 3 - لعلكم تشكرون تعتبر نعمة أجهزة تحصيل العلم من أفضل النعم التي وهبها اللّه للإِنسان، فلا يقتصر دور العين والأذن (مثلا) على النظر إِلى آثار اللّه في خلقه، والإِستماع إِلى أحاديث أنبياء اللّه وأوليائه، وتفهم ذلك وتدركه بالتحليل والإِستنتاج، بل إِنّ كل خطوة نحو التكامل والتقدم مرتبطة إِرتباطاً وثيقاً بهذه الوسائل الثلاثة. وغاية إِعطاء هذه الوسائل إِنّما تستوجب شكر الواهب، لأنّه من خلالها يمكن الحصول على العلم والمعرفة اللذين بهما امتاز الإِنسان عن غيره من الحيوانات. وممّا لا شك فيه أنّ الإِنسان ليقف عاجزاً أمام حق شكر المولى وليس له إلاّ الاعتذار. ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ جملة حالية ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لكي تشكروا على ذلك.