لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير أكمل برنامج إِجتماعي: بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شيء، جاءت هذه الآية المباركة لتقدم نموذجاً من التعليمات الإِسلامية في شأن المسائل الإِجتماعية والإِنسانية والأخلاقية، وقد تضمّنت الآية ستة أُصول مهمّة، الثلاث الأوّل منها ذات طبيعة إِيجابية ومأمور بالعمل بها، والبقية ذات صفة سلبية منهي عن ارتكابها. فتقول في البدء: (إِنّ اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإِيتاء ذي القربى). وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل من "العدل"؟!! فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل (بالعدل قامت السماوات والأرض). والمجتمع الإِنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان حياته على أُسس العدل في جميع المجالات. ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب، فالإِنحراف والإِفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين، ما هي إِلاّ صور لخلاف أصل العدل. فالإِنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح (بدون أية زيادة أو نقصان). ويحل المرض فيه وتتبيّن عليه علائم الضعف والخوار بمجرّد تعطيل أحد الأعضاء، أو تقصيره في أداء وظيفته. ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إِنسان واحد، فإِنّه سيمرض ويعتل إِنْ لم يُراع فيه العدل. ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات - الطبيعية والإِستثنائية - في عملية بناء المجتمع السليم، إِلاّ أنّها، ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة، ولذلك جاء الأمر ب- "الإِحسان" بعد "العدل" مباشرة ومن غير فاصلة. وبعبارة أوضح: قد تحصل في حياة البشرية حالات حسّاسة لا يمكن معها حل المشكلات بالإِستعانة بأصل العدالة فقط، وإِنّما تحتاج إِلى إِيثار وعفو وتضحية، وذلك ما يتحقق برعاية أصل "الإِحسان". وعلى سبيل المثال: لو أنّ عدواً غدّاراً هجم على مجتمع ما، أو وقعت زلزلة أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد، فهل من الممكن معالجة ذلك بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال، وتنفيذ سائر القوانين العادية؟!! هنا لابدّ من تقديم التضحية والبذل والإِيثار لكل مَنْ يملك القدرة المالية، الجسمية، الفكرية، لمواجهة الخطر وإِزالته، وإِلاّ فالطريق مهيأ أمام العدو لإِهلاك المجتمع كله، أو أنّ الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات. والأصلان يحكمان نظام بدن الإِنسان أيضاً بشكل طبيعي، ففي الأحوال العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها، وكلُّ منها يؤدي ما عليه من وظائف بالإِستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء (وهذا هو أصل العدالة). ولكنْ... عندما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة على أداء وظيفته، فإِنَّ بقية الأعضاء سوف لن تنساه، لأنّه توقف عن عمله، بل تستمر في تغذيته ودعمه... الخ، (وهذا هو الإِحسان). وفي المجتمع كذلك، حيث ينبغي للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان. وما جاء في الرّوايات وفي أقوال المفسّرين، من بيانات مختلفة في الفرق بين العدل والإِحسان، لعل أغلبها يشير إِلى ما قلناه أعلاه. فعن علي(عليه السلام) أنّه قال: "العدل: الإِنصاف، والإِحسان: التفضل"(1) وهذا ما أشرنا إِليه. وقال البعض: إِنّ العدل: أداء الواجبات، والإِحسان: أداء المستحبات. وقال آخرون: إِنّ العدل: هو التوحيد، والإِحسان: هو أداء الواجبات. (وعلى هذا التّفسير يكون العدل إِشارة إِلى الإِعتقاد، والإِحسان إِشارة إلى العمل). وقال بعض: العدالة: هي التوافق بين الظاهر والباطن، والإِحسان: هو أنْ يكون باطن الإِنسان أفضل من ظاهره. واعتبر آخرون: أنّ العدالة ترتبط بالأُمور العمليّة، والإِحسان بالأُمور، الكلامية. وكما قلنا فإِنّ بعض هذه التفاسير ينسجم تماماً مع التّفسير الذي قدّمناه أعلاه، وبما أَنَّ البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما. أمّا مسألة (إِيتاء ذي القربى) فتندرج ضمن مسألة "الإِحسان" حيث أن الإِحسان يشمل جميع المجتمع، بينما يخص هذا الأمر جماعة صغيرة من المجتمع الكبير وهم ذوو القربى، وبلحاظ أنّ المجتمع الكبير يتألف من مجموعات، فكلما حصل في هذه المجموعات انسجام أكثر، فإِنّ أثره سيظهر على كل المجتمع، والمسألة تعتبر تقسيماً صحيحاً للوظائف والمسؤوليات بين الناس، لأنّ ذلك يستلزم من كل مجموعة أن تمد يد العون إِلى أقربائها (بالدرجة الأُولى) ممّا سيؤدي لشمول جميع الضعفاء والمعوزين برعاية واهتمام المتمكنين من أقربائهم. وعلى ما نجده في بعض الأحاديث من أنّ المقصود ب- "ذي القربى" هم أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته من الأئمّة(عليهم السلام)، والمقصود ب- (إِيتاء ذي القربى) هوأداء الخمس، فإِنّه لا يقصد منه تحديد مفهوم الآية أبداً، بل هو أحد مصاديق المفهوم الواضحة، ولا يمنع إِطلاقاً من شمول مفهوم الآية الواسع. لو اعتبرنا مفهوم "ذي القربى" بمعنى مطلق الأقرباء، سواء كانوا أقرباء العائلة والنسب، أو أقرباء من وجوه أُخرى، فسيكون للآية مفهوم أوسع ليشمل حتى الجار والأصدقاء وما شابه ذلك (ولكنّ المعروف في ذلك قربى النسب). ولإِعانة المجموعات الصغيرة (الأقرباء) بناء محكم من الناحية العاطفية، إِضافة لما لها من ضمانة تنفيذية. وبعد ذكر القرآن الكريم للأُصول الإِيجابية الثلاثة يتطرق للأُصول المقابلة لها (السلبية) فيقول: (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي). وتحدث المفسّرون كثيراً حول المصطلحات الثلاثة "الفحشاء"، "المنكر"، "البغي"، إِلاّ أنّ ما يناسب معانيها اللغوية بقرينة مقابلة الصفات مع بعضها الآخر يظهر أنّ "الفحشاء": إِشارة إِلى الذنوب الخفية، و"المنكر": إِشارة إِلى الذنوب العلنية، و"البغي": إِشارة إِلى كل تجاوز عن حق الإِنسان، وظلم الآخرين والإِستعلاء عليهم. قال بعض المفسّرون(2): إِنّ منشاء الإِنحرافات الأخلاقية ثلاث قوى: القوّة الشهوانية، القوّة الغضبية، والقوة الوهمية الشيطانية. أمّا القوّة الشهوانية فإِنما تُرَغّب في تحصيل اللذائذ الشهوانية والغرق في الفحشاء، والقوة الغضبية تدفع الإِنسان إِلى فعل المنكرات وإِيذاء سائر الناس، وأمّا القوّة الوهمية الشيطانية فتوجد في الإِنسان الإِستعلاء على الناس والترفع وحبّ الرياسة والتقدم والتعدي على حقوق الآخرين. وأشار الباري سبحانه في المصطلحات الثلاثة أعلاه إِلى طغيان غرائز الإِنسان، ودعا إِلى طريق الحق والهداية ببيان جامع لكل الإِنحرافات الأخلاقية. وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجدداً على أهمية هذه الأصول الستة: (يعظكم لعلكم تذكرون). أشمل آيات الخير والشر: إِنّ محتوى هذه الآية المباركة له من قوّة التأثير ما جعل كثيراً من الناس يصبحون مسلمين على بيّنة من أمرهم، وها هو "عثمان بن مظعون" أحد أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (كنت أسلمت استحياءً من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة ما كان يعرض عليَّ الإِسلام، ولم يقر الإِسلام في قلبي، فكنت ذات يوم عنده حال تأمله، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئاً، فلمّا سُرِّي عنه سألته عن حاله فقال: نعم، بيّنا أنا أحدثك إِذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية (إِنّ اللّه يأمر بالعدل والإِحسان) وقرأها عليَّ إِلى آخرها، فقّر الإِسلام في قلبي. وأتيت عمّه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش، اتبعوا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) ترشدوا، فإِنّه لا يأمركم إِلاّ بمكارم الأخلاق، وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال: إِنْ كان محمّد قاله فنعم ما قال، وإِن قاله ربّه فنعم ما قال)(3). ونقرأ في حديث آخر أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: (يا ابن أخي(4) أعد، فأعاد(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الوليد: إِنّ له لحلاوة، وإِنّ عليه لطلاوة، وإِنّ أعلاه لمثمر، وإِنّ أسلفه لمغدق، وما هو قول البشر)(5). وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "جماع التقوى في قوله تعالى: (إِنّ اللّه يأمر بالعدل والإِحسان)(6). ونستفيد من هذه الأحاديث - وأحاديث أُخرى أنّ الآية تعتبر دستور عمل إِسلامي عام، وتمثل أحد مواد القانون الأساسي للإِسلام في كل زمان ومكان، حتى روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه كان يقرأ الآية المباركة قبل الإِنتهاء من خطبة الجمعة ثمّ يقول بعدها: "اللَّهم اجعلنا ممن يذكر فتنفعه الذكرى"(7) ثمّ ينزل من على المنبر. فإِحياء الأصول الثلاثة "العدل، والإِحسان، وإِيتاء ذي القربى"، ومكافحة الإِنحرافات الثلاث "الفحشاء والمنكر، والبغي" على صعيد العالم كفيل بأنْ يجعل الدنيا عامرّة بالخير، وهادئة من كل اضطراب، وخالية من أي سوء وفساد، وإِذا روي عن ابن مسعود (الصحابي المعروف) قوله: (هذه الآية أجمع آية في كتاب اللّه للخير والشر) فهو للسبب الذي ذكرناه. ويذكرنا محتوى الآية المباركة بالحديث المروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "صنفان من أُمتي إِذا صلحا صلحت أُمتي، وإِذا فسدا فسدت أُمتي، فقيل: يا رسول اللّه، مَنْ هما؟ قال: الفقهاء والأمراء". وذكر المحدَّث القمّي في (سفينة البحار) حديثاً بعد نقله لهذا الحديث مروياً عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "تكلم النّار يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارئاً، وذا ثروة من المال، فتقول للأمير: يا مَنْ وهب اللّه له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كما تزدرد الطير حبّ السمسم، وتقول للقاريء: يا مَنْ تزين للناس وبارز اللّه بالمعاصي، فتزدرده، وتقول للغني: يا مَنْ وهب اللّه له دنيا كثيرة واسعة فيضاً وسأله الحقير اليسير قرضاً، فأبى إلاّ بخلا، فتزدرده؟ وقد بحثنا موضوع العدالة باعتبارها ركناً إِسلامياً مهمّاً جدّاً ضمن تفسيرنا للآية (رقم 8) من سورة المائدة. ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ التوحيد والإنصاف بين الخلق ﴿وَالإِحْسَانِ﴾ أداء الفرائض أو التفضل على الناس أو ما يعم كل خير ﴿وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى﴾ إعطاء الأقارب أو قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء﴾ ما قبح من الفعل والقول أو الزنا ﴿وَالْمُنكَرِ﴾ ما أنكره الشرع ﴿وَالْبَغْيِ﴾ الظلم والكبر ﴿يَعِظُكُمْ﴾ بالأمر بالخير والنهي عن الشر ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾ أي تتعظون عن ابن مسعود هذه أجمع آية في القرآن للخير والشر.