سبب النّزول
كان أحد أصحاب رسول الله (ص) وهو "معقل بن يسار" يعارض زواج أُخته "جملاء" من زوجها الأوّل "عاصم بن عدي" لأنّ عاصماً كان قد طلّقها من قبل، ولكن بعد انقضاء العدّة رغب الزوجان بالعودة بعقد نكاح جديد.
فنزلت الآية ونهت الأخ عن معارضة هذا الزواج.
وقيل إنّ الآية نزلت في معارضة "جابر بن عبدالله" زواج ابنة عمّه من زوجها السابق(1).
وربّما كان حقّ المنع هذا يعطي في الجاهلية للأقربين.
لاشكّ أنّ الأخ وابن العمّ لا ولاية لهما- في فقهنا- على الاُخت وابنة العم.
إلاّ أنّ هذه الآية تتحدّث عن حكم عام- كما سنرى- يشمل الأولياء وغير الأولياء، وتقول أنّه حتّى الأب والأُم وابن العم، وكذلك الغرباء لا حقّ لهم في الوقوف بوجه هذا الزواج.
التّفسير
ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات الجاهلية، وكيف كنّ تحت سيطرة الرجال دون أن يعني أحد برغبتهنّ ورأيهنّ.
وإختيار الزوج كان واحداً من قيود ذلك الأسر، إذ أنّ رغبة المرأة وإرادتها لم يكن لها أيّ تأثير في الأمر، فحتّى من كانت تتزوج زواجاً رسمياً ثمّ تطلّق لم يكن لها حقّ الرجوع ثانية بمحض إرادتها، بل كان ذلك منوطاً برغبة وليّها أو أوليائها، وكانت ثمّة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجيّة بينهما، ولكن أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعاً لمصالحهم أو لتخيّلاتهم وأوهامهم.
إلاّ أنّ القرآن أدان هذه العادة، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحقّ، إذ أنّ الزوجين- وهما ركنا الزواج الأصليان، إذا توصّلا إلى إتفاق بالعودة بعد الإنفصالـ يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حقّ الإعتراض عليهما.
تقول الآية (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) هذا إذا كان المخاطب في هذه الآية هم الأولياء من الرجال الأقارب، ولكن يحتمل أن يكون المخاطب هو الزوج الأوّل.
بمعنى أنكم إذا طلقتم زوجاتكم فلا تمنعوهن من الزواج المجدّد مع رجال آخرين، حيث إن بعض الأشخاص المعاندين في السابق وفي الحال الحاضر يشعرون بحساسية شديدة تجاه زواج زوجاتهم السابقة من آخرين، وما ذلك سوى نزعة جاهلية فحسب(2).
في الآية السابقة "بلوغ الأجل" يعني بلوغ أواخر أيام العدّة، ولكن في هذه الآية المقصود هو انقضاء آخر يوم من العدّة، بقرينة الزواج المجدّد.
فالغاية في الآية السابقة جزء من المغيا وفي الآية محل البحث خارجة عن المغيا.
ويتبين من هذه الآية أنّ الثيّبات- أي اللّواتي سبق لهنًّ الزواج ثمّ طلّقن أو مات أزواجهنّ- إذا شئن الزّواج ثانية فلا يلزمهنّ موافقة أوليائهنّ أبداً.
ثمّ تضيف الآية وتحذّر ثانية وتقول: (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر)ثمّ من أجل التأكيد أكثر تقول: (ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
يشير هذا المقطع من الآية إلى أنّ هذه الأحكام قد شُرّعت لمصلحتكم غاية الأمر أنّ الأشخاص الّذين ينتفعون بها هم الّذين لهم أساس عقائدي من الإيمان بالله والمعاد ولا يتبّعون أهوائهم.
وبعباره اُخرى أنّ هذه الجملة تقول: أنّ نتيجة العلم بهذه الأحكام يصبُّ فيمصلحتكم، لكنّكم قد لاتدركون الحكمة والغاية منها لجهلكم وقلّة معارفكم، والله هو العالم بكلّ الأسرار، ولذلك قرّر هذه الأحكام وشرّعها لما فيها من تزكيتكم وحفظ طهارتكم.
والجدير بالذّكر أنّ الآية تشير إلى أنّ العمل بهذه الأحكام يستوجب:(التزكية) و (الطهارة) فتقول (أزكى لكم وأطهر) يعني أنّ العمل بها يطهّر أفراد العائلة من مختلف الأدناس والخبائث، وكذلك يوجب لهم الخير والبركة والتكامل المعنوي، لأنّ "التّزكية" في الأصل (الزّكاة) بمعنى النمو.
وذكر بعض المفسّرين إنّ جملة (أزكى لكم) تشير إلى الثواب المترتّب على الأعمال، وجملة (أطهر) تشير إلى الطّهارة والنّقاء من الذّنوب.
ومن البديهي أنّ الزّوجين بالرّغم من كلّ تلك العلاقة الوطيدة والحميمة التي تربط بينهما قد ينفصلا بسبب بعض الحوادث المؤسفة، ولكن بعد الإنفصال والفرقة ومشاهدة الآثار الوخيمة المترتّبة على هذه الفرقة يندمان ويصمّمان على العودة إلى الحياة المشتركة، وهنا لاينبغي التشدّد والتعصّب لمنع عودتهما لأنّ ذلك يخلّد آثاراً سلبيّة وخيمة في روحيّة كلٌّ منهما، وقد يؤدّي إلى إنحرافهما وتلوّثهما بالرّذيلة، وإن كان لهما أبناء كما هو الغالب فإنّ مصيرهم سوف يكون تعيساً جدّاً، ومسؤوليّة هذه العواقب الأليمة والإفرازات المشؤومة تكون بعهدة من يمنع هذين الزّوجين من المصالحة.
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ انقضت عدتهن ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ تمنعوهن ﴿أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ الخطاب عام أي ليس لأحد ذلك أو للأزواج الذين يمنعون نساءهم بعد العدة عن التزويج ظلما للحمية لقوله إذا طلقتم أو للأولياء ﴿إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم﴾ أي الخطاب والنساء ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ شرعا حال من الواو أو صفة مصدر محذوف ويفيد جواز العضل عن غير الكفؤ ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ إذ هو المنتفع به ﴿ذَلِكُمْ﴾ أي عملكم بموجب ما ذكر ﴿أَزْكَى﴾ خير ﴿لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ من دنس الذنوب ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ﴾ ما فيه الصلاح ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.