لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير معراج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الآية الأُولى في سورة الإِسراء تتحدَّث عن إِسراء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي سفره ليلا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إِلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف). وقد كان هذا السفر "الإِسراء" مقدمة لمعراجه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى السماء. وقد لوحظ في هذا السفر أنّه تمَّ في زمن قياسي حيث أنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة الى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمراً اعجازياً وخارقاً للعادة. السّورة المباركة تبدأ بالقول: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى). وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإِعجازي هو (لنريه من آياتنا). ثمّ خُتمت الآية بالقول: (إِنَّهُ هو السميع البصير). وهذه إِشارة إِلى أنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يختر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يصطفه لشرف الإِسراء والمعراج إِلاّ بعد أن اختبر استعداده(صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام، فالله تبارك وتعالى سمع قول رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره لهُ في الإِسراء والمعراج. واحتمل بعض المفسّرين في قوله تعالى: (إِنَّه هو السميع البصير) أن يكون تهديداً لمنكري هذا الإِعجاز، وأنَّ اللّه تباركَ وتعالى محيط بما يقولون وبما يفعلون، وبما يمكرون!! وَبالرغم مِن أنَّ هَذه الآية تنطوي على اختصار شديد، إِلاّ أنّها تكشف عن مواصفات هذا السفر الليلي "الإِسراء" الإِعجازي مِن خلال ما ترسمهُ لهُ مِن أفق عام يمكن تفصيله بالشكل الآتي: أوّلاً: إِنَّ تعبير "أسرى" في الآية يشير إِلى وقوع السفر ليلا، لأنَّ "الإِسراء" في لغة العرب يستخدم للدلالة على السفر الليلي، فيما يُطلق على السفر النهاري كلمة "سير". ثانياً: بالرغم مِن أنَّ كلمة "ليلا" جاءت في الآية تأكيداً لكلمة "أسرى" إِلاّ أنّها تريد أن تبيّن أن سفر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد تمَّ في ليلة واحدة فقط على الرغم مِن أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدَّر بأكثر مِن مائة فرسخ، وبشروط مواصلات ذلك الزمان، كانَ إِنجاز هذا السفر يتطلب أيّاماً بل وأسابيع، لا أن يقع في ليلة واحدة فقط!! ثالثاً: إِذا كانَ مقام العبودية هو أسمى مقام يبلغه الإِنسان في حياته، فإِنَّ الآية قد كرَّمت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بإِطلاق وصف العبودية عليه، فقالت "عبده" للدلالة على مراقي الطاعة والعبودية التي قطعها الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لله تبارك وَتعالى حتى استحق شرف "الإِسراء" حيث لم يسجد جبين رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لشيء سوى اللّه، ولم يطع(صلى الله عليه وآله وسلم) ما عداه، وقد بذل كل وسعه، وخطا كل خطوة في سبيل مرضاته تعالى. رابعاً: تفيد كلمة "عبد" في الآية، أنَّ سفر الإِسراء قد وقع في اليقظة، وأنَّ رسول اللّه سافر بجسمه وروحه معاً، وأنَّ الإِسراء لم يكن سفراً روحانياً معنوياً وحسب، لأنَّ الإِسراء إِذا كانَ بالروح - وحسب - فهو لا يعدو أن يكون رؤيا في المنام، أو أي وضع شبيه بهذه الحالة، ولكن كلمة "عبد" في الآية تدلَّل على أنَّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قد سافر بجسمه وروحه، لأنَّ "عبد" معنى يُطلق على الروح والجسد معاً. أمّا الأشخاص الذين لا يستطيعون هضم معجزة الإِسراء والمعراج، ولم تستطع عقولهم أن تتعامل مَع هذه المعجزة كما هي، فقد عمدوا إِلى توجيهها بعنوان الإِسراء الروحي في حين أنّه لو قال شخص لآخر: إِني نقلتك إِلى المكان الفلاني فإِنَّ المفهوم الصريح للمعنى لا يمكن تأويله باحتمال أنَّ هذا الأمر قد تمَّ في حالة النوم، أو أنّه تعبير عن حالة معنوية تمتزج بأبعاد مِن الوهم والتخيُّل. خامساً: لقد كان مُبتدأ هذا السفر (الذي كان مقدمة للمعراج كما سنثبت ذلك في محلّه) هو المسجد الحرام في مكّة المكرمة، ومنتهاه المسجد الأقصى في القدس الشريف. بالطبع هناك كلام كثير للمفسّرين عن المكان الدقيق الذي انطلق مِنهُ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وفيما إِذا كان هذا المكان بيت أحد اقربائه (باعتبار أنّ المسجد الحرام قد يطلق احياناً ومن باب التعظيم على مكّة المكرمة بأجمعها) أو أنَّهُ انطلق مِن جوار الكعبة، ولكن ظاهر الآية بلا شك يفيد أنَّ المنطلق في سفر الإِسراء كان مِن المسجد الحرام. سادساً: لقد كان الهدف مِن هذا السفر الإِعجازي أنْ يشاهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)آيات العظمة الإِلهية، وقد استمرَّ سفر الإِسراء إلى المعراج صعوداً في السماوات لتحقيق هذا الغرض، وهو أن تمتلىء روح رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر بدلائل العظمة الرّبانية، وآيات اللّه في السماوات، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخماً إِضافياً يوظَّفهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) في هداية الناس إِلى ربّ السماوات والأرض!! وبذلك فإِنَّ سفر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في رحلة الإِسراء والمعراج لم يكن - كما يتصوّر البعض ذلك - بهدف رؤية اللّه تبارك وتعالى ظناً منهم أنّه تعالى يشغل مكاناً في السماوات!!!!!! وبالرغم من أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفاً بعظمة اللّه سبحانه، وكان عارفاً أيضاً بعظمة خلقه، ولكن "متى كان السماع كالرؤية؟!!". ونقرأ في سورة (النّجم) التي تلت سورة الإِسراء وتحدثت عن المعراج قوله تعالى: (لقد رأى مِن آيات ربّه الكبرى). سابعاً: إِنَّ تعبير الآية (باركنا حوله) تفيد بأنَّه علاوة على قدسية المسجد الأقصى، فإِنَّ أطرافه أيضاً تمتاز بالبركة والأفضلية على ما سواها. ويمكن أن يكون مُراد الآية البركة الظاهرية المتمثلة بما تهبه هذه الأرض الخصبة الخضراء مِن مزايا العمران والأنهار والزراعة. ويمكن أن تُحمل البركة على قواعد الفهم المعنوي فتشير حين ذاك إِلى ما تمثِّله هذه الأرض في طول التأريخ، مِن كونها مركزاً للنبوات الإِلهية، وَمُنطلقاً لنور التوحيد، وأرضاً خصبة للدعوة إِلى عبودية اللّه. ثامناً: إِنَّ تعبير (إِنَّهُ هُو السميع البصير) إِشارة إِلى أنَّ إِكرام اللّه لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)بمعجزة الإِسراء والمعراج لم يكن أمراً عفوياً عابراً، بل هو بسبب استعدادات رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) وقابلياته العظيمة التي تجلت في أقواله وأفعاله، هذه الأقوال والأفعال التي يعرفها اللّه ويحيط بها. تاسعاً: إِنَّ كلمة "سبحان" إِشارة إِلى أنَّ سفر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في الإِسراء والمعراج دليل آخر على تنزيه اللّه تبارك وتعالى من كل عيب ونقص. عاشراً: كلمة "مِن" في قوله تعالى: (من آياتنا) إِشارة إِلى عظمة آيات اللّه بحيث أنَّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) - على علو مقامه واستعداده الكبير - لم ير مِن هذه الآيات خلال سفره الإِعجازي سوى جزء معين مِنها. المعراج: مِن المعروف والمشهور بين علماء الإِسلام أنَّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما كان في مكّة!! أسرى بهِ اللّه تبارك وتعالى بقدرته مِن المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى، وَمِن هُناك صعد بهِ إِلى السماء "المعراج" ليرى آثار العظمة الرّبانية وآيات اللّه الكبرى في فضاء السماوات، ثمّ عادَ(صلى الله عليه وآله وسلم) في نفس الليلة إِلى مكّة المكرمة. والمعروف المشهور أيضاً أنّ سفر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الإِسراء والمعراج قد تمَّ بجسم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وروحه معاً. ولكن العجيب ما يحاولهُ البعض مِن توجيه معراج الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعراج الروحي والذي هو حالة شبيهة بالنوم أو "المكاشفة الروحية" ولكن هذا التوجيه - كما أشرنا - لا ينسجم اطلاقاً معَ ظواهر الآيات، بل هو مخالف لها، إِذ يدل الظاهر على أنَّ القضية تمت بشكل جسمي حسي. في كل الأحوال تبقى هُناك مجموعة أسئلة تثار حول قضية المعراج يمكن أن نلخصها بالشكل الآتي: 1 - كيفية المعراج مِن وجهة نظر القرآن والتأريخ والحديث. 2 - آراء علماء الإِسلام شيعة وسنة حول هذه القضية. 3 - الهدف مِن المعراج. 4 - إِمكانية المعراج مِن وجهة نظر العلوم المعاصرة. بالرغم مِن أنّ الإِجابة المُفصَّلة على هذه الأسئلة هي خارج نطاق بحثنا التّفسيري، إِلاّ أننا سنعالج هذه النقاط باختصار يُناسب ذوق القاريء الكريم. المعراج في القرآن والحديث: في كتاب اللّه سورتان تتحدثان عن المعراج: السورة الأُولى هي سورة "الإِسراء" التي نحنُ الآن بصددها، وقد أشارت إِلى القسم الأوّل مِن سفر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (أي أشارت لإِسراءه (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى) وقد أُستتبع الإِسراء بالمعراج. السورة الثّانية التي أشارت للمعراج هي سورة "النجم" التي تحدثت عنهُ في ستِ آيات هي: (ولقد رآه نزلة أُخرى عند سدرة المُنتهى عِندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغَ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربّه الكبرى). هذه الآيات تفيد حسب أقوال المفسّرين أنَّ الإِسراء والمعراج تمّا في حالة اليقظة، وإِنّ قوله تعالى: (ما زاغَ البصر وما طغى) هو إِثبات آخر لصحة هذا القول. في الكتب الإِسلامية المعروفة هُناك عدد كبير جدّاً مِن الأحاديث والرّوايات التي جاءت حول قضية المعراج، حتى أنَّ الكثير من علماء الإِسلام يذهب إِلى "تواتر" حديث المعراج أو اشتهاره، وعلى سبيل المثال نعرض للنماذج الآتية: يقول الشيخ "الطوسي" في تفسير (التبيان) ما نصَّهُ: "إِنَّهُ عرج به في تلك الليلة إِلى السماوات حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة، وأراه اللّه مِن آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة ويقيناً، وكان ذلك في يقظته(صلى الله عليه وآله وسلم)دون منامه"(1). أمّا العلاّمة "الطبرسي" في تفسيره المعروف "مجمع البيان" فيقول: "وما قالهُ بعضهم أنَّ ذلك كانَ في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان، وقد وردت روايات كثيرة في قصّة المعراج، في عروج نبيّنا(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى السماء، ورواها كثير من الصحابة ...إِذ أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم)صلى المغرب في المسجد الحرام ثمّ أسري به في ليلته ثمّ رجع فصلى الصبح في المسجد الحرام. وقال الأكثرون وهو الظاهر مِن مذاهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم، أنَّ اللّه تعالى صعد بجسمه إِلى السماء حياً سليماً حتى رأى ما رأى مِن ملكوت السماوات بعينه، ولم يكن ذلك في المنام"(2). أمّا العلاّمة "المجلسي" فيقول في (بحار الأنوار) ما نصه: "أعلم أنَّ عروجه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى بيت المقدس ثمّ إِلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف، ممّا دَلَّت عليه الآيات والأخبار المتواترة مِن طرق الخاصّة والعامّة، وإِنكار أمثال ذلك أو تأويلها بالعروج الروحاني أو بكونه في المنام ينشأ إِمّا مِن قلَّة التتبع في آثار الأئمّة الطاهرين أو مِن ضعف اليقين"(3). ثمّ يردف العلاّمة المجلسي قائلا: "لو أردت استيفاء الأخبار الواردة في هذا الباب لصار مجلداً كبيراً"(4). ومِن علماء السنة قام منصور علي ناصف الأزهري المعاصر بجمع أحاديث المعراج في كتابه المعروف باسم "التاج". أمّا الفخر الرازي - المفسّر الإِسلامي المعروف - فيقول بعد ذكره لسلسلة مِن الإِستدلالات على إِمكان الوقوع العقلي للمعراج، ما يلي: "مِن وُجهة نظر الحديث تعتبر أحاديث المعراج من الرّوايات المشهورة في صحاح أهل السنّة، ومفاد هذه الأحاديث إِسراء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن مكّة إِلى بيت المقدس، وعروجه مِن بيت المقدس إِلى السماء". أمّا الشيخ عبد العزيز بن عبداللّه بن باز وهو مِن مُتعصبي علماء الوهابية والذي يشغل الآن منصب رئيس إِدارات البحوث العلمية والإِفتاء والدعوة والإِرشاد، فيقول في كتابه "التحذير مِن البدع": "ليس مِن شك في أنَّ الإِسراء والمعراج هي مِن العلامات الكبيرة على صدق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلو مقامه ومنزلته" إِلى أن يقول: "نقلت أخبار متواترة عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّ اللّه تبارك وتعالى أخذ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وفتح لهُ أبواب السماء"(5). وَلكن ينبغي أن نلاحظ هُنا أن مِن بين الرّوايات الواردة في قضية المعراج ثمّة أحاديث ضعيفة ومجعولة لا يمكن القبول بها مطلقاً. لذلك نرى أن المفسّر الإِسلامي الكبير، الشيخ الطبرسي عَمدَ في ذيل تفسير هذه الآية مورد البحث إِلى تقسيم الأحاديث الواردة في المعراج إِلى أربع فئات هي: 1 - ما يُقطع بصحته لِتواتر الأخبار به وإحاطة العلم بصحته، ومثلهُ أنَّهُ أسري بهِ على الجملة. 2 - ما وردَ في ذلك ممّا تجوزه العقول ولا تأباه الأُصول، فنحنُ نجوزه ثمّ نقطع على أنَّ ذلك كان في يقظته دون منامه، ومثله ما شاهده مِن آيات ربّه في السماوات. 3 - ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الأصول إِلاّ أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول، نحو ما روي أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) رأى قوماً في الجنّة يتنعمون فيها، وقوماً في النّار يعذبون فيها، فهو يُحمل على أنَّهُ رأى صفتهم أو أسماءهم. 4 - ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إِلاّ على التعسف البعيد فالأولى أن لا نقبله، نحو ما قيل مِن أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) كلَّم اللّه سبحانه جهرة، ورآه وقعد معه على سريره... ممّا يوجب ظاهره التشبيه واللّه سبحانه وتعالى يتقدَّس عن ذلك(6). هناك أيضاً اختلافات بين المؤرخين المسلمين حول تاريخ وقوع المعراج، إِذ يقول البعض: أنّه حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين مِن شهر رجب، والبعض يقول: إِنَّهُ عرجَ به(صلى الله عليه وآله وسلم) في (17) رمضان مِن السنة الثّانية عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال: إِنَّ المعراج وَقَع في أوائل البعثة. ولكن في كل الأحوال، فإِنَّ الإِختلاف في تأريخ وقوع المعراج لا ينفي أصل الحادثة. مِن المفيد أيضاً أن نذكر أنَّ عقيدة المعراج لا تقتصر على المسلمين، بل هُناك ما يُشابهها في الأديان الأخرى، بل إِنا نرى في المسيحية أكثر ممّا قيل في معراج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِذ يقول أُولئك كما في الباب السّادس مِن إِنجيل "مرقس" والباب (24) مِن إِنجيل "لوقا" والباب (21) مِن إِنجيل (يوحنّا) أن عيسى بعد أن صُلب وقتل ودفن نهض مِن مدفنه وعاش بين الناس أربعين يوماً قبل أن يعرج إِلى السماء ليبقى هناك في عروج دائم!! ونستفيد مِن مؤدّى بعض الرّوايات أنّ بعض الإنبياء السابقين عُرِجَ بهم إِلى السماء أيضاً. هل كان المعراج جسدياً أم روحياً؟ إِن ظاهر الآيات القرآنية الواردة في أوائل سورة الإِسراء، وكذلك سورة النجم (كما فصلنا أعلاه) تدلل على وقوع المعراج في اليقظة، ويؤكّد هذا الأمر كبار علماء الإِسلام من الشيعة والسنة. وتشهد التواريخ الإِسلامية أيضاً على صدق هذا الموضوع، ونقرأ في التأريخ أن المشركين أنكروا بشدّة قضية المعراج عندما تحدث بها الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخذوها عليه ذريعة للإِستهزاء به، ممّا يدل بوضوح على أن الرّسول لم يدّع الرؤية أو المكاشفة الروحية أبداً، وإِلاّ لما استتبع القضية كل هذا الضجيج. أمّا ما ورد عن الحسن البصري أنّه (كان في المنام رؤيا رآها) أو عن عائشة أنّه: (واللّه ما فُقِدَ جسد رسول اللّه ولكن عرج بروحه)، فيبدو أنّ لذلك منظور سياسي، لإِخماد الضجّة التي أثيرت حول قضية المعراج. هدف المعراج: اتّضح لنا من خلال البحوث الماضية، أنّ هدف المعراج لم يكن تجوالا للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في السماوات للقاء اللّه كما يعتقد السذج، وكما نقل بعض العلماء الغربيين - ومع الأسف - لجهلهم أو لمحاولتهم تحريف الإِسلام أمام الآخرين، ومنهم (غيور غيف) الذي يقول في كتاب (محمد رسول ينبغي معرفته من جديد، ص 120)، (بلغ محمد في سفر معراجه إِلى مكان كان يسمع فيه صوت قلم اللّه، ويفهم أنّ اللّه منهمك في تدوين حساب البشر!! ومع أنّه كان يسمع صوت قلم اللّه إِلاّ أنّه لم يكن يراه!! لأنّ أحداً لا يستطيع رؤية اللّه وإِن كان رسولا). وهذا يُظهر أن القلم كان من النوع الخشبي!! الذي يهتز ويولد أصواتاً عند حركته على الورق!!!! وأمثال هذه الخرافات والأوهام. كلا. فالهدف كان مشاهدة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لأسرار العظمة الإِليهة في أرجاء عالم الوجود، لا سيما العالم العلوي الذي يشكل مجموعة من براهين عظمته، وتتغذى بها روحه الكريمة وتحصل على نظرة وإِدراك جديدين لهداية البشرية وقيادتها. ويتّضح هذا الهدف بشكل صريح في الآية الأُولى من سورة الإِسراء، والآية (18) من سورة النجم. وهناك رواية أيضاً منقولة عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في جوابه على سبب المعراج. أنّه قال(عليه السلام): "إِن اللّه لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزَّ وجلّ أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته، ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه"(7). المعراج والعلوم العصرية: كان بعض الفلاسفة القدماء يعتقد بنظرية "الأفلاك البطليموسية التسعة" والتي تكون على شكل طبقات البصل في إِحاطتها بالأرض، لذلك فقد أُنكر المعراج بمزاعم علمية تقوم على أساس الإِيمان بنظرية الهيئة البطليموسية والتي بموجبها يُلزَم خرق هذه الأفلاك ومِن ثمّ التئامها ليكون المعراج ممكناً(8). ولكن مع انهيار قواعد نظرية الهيئة البطليموسية أصبحت شبهة خرق والتئام الأفلاك في خبر كان، وضمتها يد النسيان، ولكن التطوّر المعاصر في علم الأفلاك أدّى إلى إِثارة مجموعة مِن الشبهات العلمية التي تقف دون إِمكانية المعراج علمياً، وهذه الشبهات يمكن تلخيصها كما يلي: أوّلاً: إِنّ أوّل ما تواجه الذي يريد أن يجتاز المحيط الفضائي للأرض إِلى عمق الفضاء هو وجوب الإِنفلات مِن قوة الجاذبية الأرضية، ويحتاج الإِنسان للتخلّص مِن الجاذبية إِلى وسائل إِستثنائية تكون معدَّل سرعتها على الأقل (40) ألف كيلومتر في الساعة. ثانياً: المانع الآخر يتمثل في خلو الفضاء الخارجي مِن الهواء، الذي هو القوام في حياة الإِنسان. ثالثاً: المانع الثّالث يتمثل بالحرارة الشديدة الحارقة (للشمس) والبرودة القاتلة، وذلك بحسب موقع الإِنسان في الفضاء مِن الشمس. رابعاً: هناك خطر الإِشعاعات الفضائية القاتلة كالأشعة الكونية والأشعة ما وراء البنفسجية وأشعة إِكس، إِذ مِن المعروف أنّ الجسم يحتاج إِلى كميات ضئيلة مِن هذه الإِشعاعات، وهي بهذا الحجم لا تشكّل ضرراً على جسم الإِنسان ووجود طبقة الغلاف الجوي يمنع من تسربها بكثرة إِلى الأرض، ولكن خارج محيط الغلاف الجوّي تكثُر هذه الإِشعاعات إِلى درجة تكون قاتلة. خامساً: هُناك مُشكلة فقدان الوزن التي يتعرض لها الإِنسان في الفضاء الخارجي، فمن الممكن للإِنسان أن يتعوَّد تدريجياً على الحياة في أجواء انعدام الوزن، إِلاّ أنَّ انتقاله مرّة واحدة إِلى الفضاء الخارجي - كما في المعراج - هو أمرٌ صعب للغاية، بل غير ممكن. سادساً: المشكلة الأخيرة هي مُشكلة الزمان، حيثُ تؤكد علوم اليوم على أنَّهُ ليست هُناك وسيلة تسير أسرع مِن سرعة الضوء، والذي يريد أن يجول في سماوات الفضاء الخارجي يحتاج إِلى سرعة تكون أسرع مِن سرعة الضوء!! في مُواجهةِ هذه الأسئلة: أوّلاً: في عصرنا الحاضر، وبعد أن أصبحت الرحلات الفضائية بالإِستفادة مِن معطيات العلوم أمراً عادياً، فإِنَّ خمساً مِن المشاكل الست الآنفة تنتفي، وتبقى - فقط - مشكلة الزمن. وهذه المشكلة تثار فقط عند الحديث عن المناطق الفضائية البعيدة جداً. ثانياً: إِنَّ المعراج لم يكن حدثاً عادياً، بل أمرٌ إِعجازي خارق للعادة ثمّ بالقدرة الإِلهية. وكذلك الحال في كافة معجزات الأنبياء وهذا يعني عدم استحالة المعجزة عقلا، أمّا الأُمور الأُخرى فتتم بالإِستناد إِلى القدرات الإِلهية. وإِذا كانَ الإِنسان قد استطاع باستثمار لمعطيات العلوم الحديثة أن يوفَّر حلولا للمشكلات الآنفة الذكر، مثل مشكلة الجاذبية والأشعة وانعدام الوزن وما إِلى ذلك، حتى أصبح بمستطاعه السفر إِلى الفضاء الخارجي ... فألا يمكن لله - خالق الكون، صاحب القدرات المطلقة - أن يوفَّر وسيلة تتجاوز المشكلات المذكورة؟!! إِنّنا على يقين من أنَّ اللّه تبارك وتعالى وضع في مُتناول رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) مركباً مَناسباً صانهُ فيه عن كل المخاطر والأضرار في معراجه نحو السماوات، ولكن ما اسم هذا المركب هل هو "البُراق" أو "رفرف"؟ وعلى أي شكل وهيئة كان؟ كل هذه أُمور غامضة بالنسبة لنا، ولكنّها لا تتعارض مع يقيننا بما تمَّ، وإِذا أردنا أن نتجاوز كل هذه الأُمور فإِنَّ مشكلة السرعة التي بقيت - لوحدها - تحتاج إِلى حل، فإِنَّ آخر معطيات العلم المعاصر بدأت تتجاوز هذه المشكلة بعد أن وجدت لها حلولا مناسبة بالرغم ممّا يُؤكّده "إِنشتاين" في نظريته من أن سرعة الضوء هي أقصى سرعة معروفة اليوم. إِنّ علماء اليوم يُؤكدون أنَّ الأمواج الجاذبة لا تحتاج إِلى الزمن، وهي تنتقل في آن واحد من طرف من العالم إِلى الطرف الآخر منه وهناك احتمال مطروح بالنسبة للحركة المرتبطة بتوسّع الكون (مِن المعروف أنَّ الكون في حالة اتساع وأنّ النجوم والمنظومات السماوية تبتعد عن بعضها البعض بحركة سريعة) إِذ يلاحظ أنَّ الأفلاك والنجوم والمنظومات الفضائية تبتعد عن بعضها البعض وعن مركز الكون إِلى أطرافه، بسرعة تتجاوز سرعة الضوء!! إِذن، بكلام مُختصر نقول: إِنَّ المشكلات الآنفة ليس فيها ما يحول عقلا دون وقوع المعراج، ودون التصديق به، والمعراج بذلك لا يعتبر مِن المحالات العقلية، بل بالإِمكان تذليل المشكلات المثارة حوله بتوظيف الوسائل والقدرات المناسبة. وبذلك فالمعراج لا يعتبر أمراً غير ممكن لا مِن وجهة الأدلة العقلية، ولا مِن وجهة معطيات وموازين العلوم المعاصرة. وهو بالإِضافة إِلى ذلك أمرٌ إِعجازي خارق للعادة. لذلك، إ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ محمد ﴿لَيْلاً﴾ ظرف للإسراء وفائدته مع أن الإسراء لا يكون إلا بالليل - تقليل مدة الإسراء وأنه أسري به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة ﴿مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَ﴾ بيت المقدس لبعد ما بينهما ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ في الدين والدنيا يجعله مقر الأنبياء ومهبط الوحي وحفه بالأشجار والأنهار وفيه التفات ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ العجيبة في السموات والأرض وما بينهما ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾.