لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التي بعدها تشير إِلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول: كما أن السعي في هذه الدنيا متفاوت، وتتفاوت معه الأجور; فكذلك الأمر في الآخرة: ولكن التفاوت الدنيوي محدود، لأنَّ الدنيا هي نفسها محدودة، وأمّا الآخرة - ولكونها غير محدودة - فإن تفاوتها غير محدود، إِذ يقول تعالى: (أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا). قد يقول قائل هنا; إِننا نرى في هذه الدنيا أفراداً يحصلون على أرباح كثيرة بدون أي سعي أو جهد. الجواب: إِنّ وجود هؤلاء يعبِّر عن حالات إِستثنائية لا يمكن إِعتبارها قاعدة في مقابل الأصل الكلي، المتمثل في الجهد والسعي ودورهما في نجاح الإِنسان وتوفيقه. وبذلك فإِنَّ هذه الإِستثناءات الثانوية لا تنافي الأصل الأساسي. وأخيراً، وقبل أن ننتقل إِلى الملاحظات، ينبغي أن نُنَّبه إِلى أنَّ السعي وبذل الجهد لا يتعلقان بالكمية والمقدار فقط، ففي بعض الأحيان يكون السعي القليل ذو الكيفية العالية أكثر أثراً من السعي الكثير والكيفية الدانية. بحوث أوّلاً: هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟ في الواقع إِنّنا نرى في كثير مِن الآيات القرآنية مدحاً وتمجيداً للدنيا وبإِمكاناتها المادية، ففي بعض الآيات اعتبر المال خيراً (سورة البقرة آية 180). وفي آيات كثيرة وصفت العطايا والمواهب المادية بأنّها فضل اللّه (وابتغوا مِن فضل اللّه)(3). وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً)(4). وفي آيات كثيرة أُخرى وصفت نعم الدنيا بأنها مسخّرة لنا (سخر لكم). وإِذا أردنا أن نجمع كل الآيات التي تهتم بالإِمكانات المادية وتؤكد عليها، وتجعلها في سياق واحد، فستكون أمامنا مجموعة كبيرة مِنها. ولكن، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية، فإِنَّ القرآن الكريم استخدم تعابير أُخرى تحقّرها وتحطّ مِنها بقوة، إِذ نقرأ في سورة النساء، آية (94)، قوله تعالى: (تبتغون عرض الحياة الدنيا) وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إِلاّ متاع الغرور)(5). وفي سورة العنكبوت آية (64)، نقرأ (وما هذه الحياة الدنيا إِلاّ لهو ولعب) أمّا في الآية (37) مِن سورة النّور، فإِنا نلتقي مع قوله تعالى: (رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر اللّه). هذه المعاني المزدوجة إِزاء النعم والمواهب المادية، يمكن ملاحظتها أيضاً في الأحاديث والرّوايات الإِسلامية، فالدنيا في وصف لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)هي "مسجدُ أحباء اللّه، ومصلى ملائكة اللّه، ومهبط وحي اللّه، ومتجر أولياء اللّه"(6). وفي جانب آخر، نرى أنَّ الأحاديث والرّوايات الإِسلامية تعتبر الدنيا دار الغفلة والغرور، وما شابه ذلك. والسؤال هنا: هل تتعارض هذه المجاميع من الآيات والرّوايات فيما بينها؟ في الواقع، عندما تلام الدنيا، فإِنَّ اللوم ينصب على أُولئك الناس الذين لا هدف لهم ولاهمّ سواها. مِن هنا نقرأ في الآية (29) مِن سورة النجم قوله تعالى: (ولم يرد إِلاّ الحيوة الدنيا). وبعبارة أُخرى، فإِنَّ الذم الذي يَرد للدنيا يقصد به الأشخاص الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. ولا يتناهون عن أي منكر وجريمة في سبيل الوصول إِلى أهدافهم المادية، وفي هذا السياق نقرأ في الآية (38) مِن سورة التوبة: (أرضيتم بالحياة الدنيا مِن الآخرة). ثمّ إِنَّ الآيات التي نبحثها تشهد على ما نقول، إِذ أنَّ قوله تعالى: (مَن كان يريد العاجلة ...) هو خطاب لأُولئك الذين يستهدفون هذه الحياة العادية الزائلة، ويقفون عندها. وعادةً فإِن استخدام تعابير "المزرعة" أو "المتجر" وما شاكلهما في تشبيه الحياة الدنيا ووصفها، يعتبر دليلا حياً على هذا الموضوع. وخلاصة القول: إِنَّهُ إِذا تمت الإِستفادة مِن مواهب الدنيا وعطاياها التي تُعتبر مِن النعم الإِلهية; ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود، وتمت الإِستفادة في سعادة الإِنسان الأخروية وتكامله المعنوي، فإِنَّ ذلك يعتبر أمراً جيداً، وتمتدح معه الدنيا. أمَّا إِذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإِنسانية، عندها سَيُصاب الإِنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم. وما أجمل وصف الإِمام علي(عليه السلام) للدنيا حينما يقول: "مَن أَبصر بها بصرته، ومَن أَبصر إِليها أعمته"(7). وفي أنَّ الفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة، هو نفس الفرق الذي نستفيده، بين "إِليها" و"بها"، إِذ تعني الأُولى أنَّ الدنيا هدف، بينما تعني الثّاني أنّها مجرد وسيلة!! ثانياً: دور السعي في تحقيق المكاسب: هذه ليست المرّة الأُولى التي يشيد فيها القرآن بالسعي والجهد ودورهما في تحقيق المكاسب، وبعكسه يُحذَّر الأشخاص العاطلين والكُسالى بأنَّ السعادة الأخروية لا يمكن ضمانها بالكلام المجرد، والتظاهر بالإِيمان، بل الطريق يتمثل بالسعي وبذل الجهود. وهذه الحقيقة واضحٌ مفادها في الكثير مِن الآيات القرآنية. ففي سورة المدثر آية (38) نقرأ (كلّ نفس بما كسبت رهينة) وآيةٌ أُخرى تقول: (وأن ليس للإِنسان إِلاّ ما سعى). وفي آيات كثيرة أُخرى، يأتي العمل الصالح بعد ذكر الإِيمان حتى لا يتوهم أحدٌ ويظن بأنَّهُ يستطيع الوصول إِلى مرحلة ما بدون سعي وجهد، فمواهب الدنيا المادية لا يمكن استحصالها بدون سعي وجهد; فكيف إِذن بالسعادة الأخروية الخالدة!!!!؟ ثالثاً: الإِمدادات الإِلهية: "نمدّ" مشتقّة مِن كلمة "إِمداد" وهي تعني إِيصال المعونة، يقول الراغب الأصفهاني في كتاب "المفردات" أن: كلمة "إِمداد" غالباً ما تُستعمل في المساعدات المفيدة والمؤثِّرة. أما كلمة "مدَّ" فإِنها تستعمل في الأشياء المكروهة وغير المقبولة. على أيةِ حال، نقرأ في الآيات التي نبحثها، أنَّ اللّه سبحانه وتعالى يضع جزءاً من نعمه في خدمة الجميع، إِذ يستفيد مِنها المحسنون والمسيئون، وهذه النعم غالباً ما تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة عليه. بتعبير آخر: هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإِلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس، المؤمن والكافر. ولكن ما وراء ذلك هناك نعم لا تحصى تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم. ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ في الرزق والجاه ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ﴾ أعظم ﴿دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ من الدنيا.