لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان، وعن قصد وعلم في أحيان أُخرى، لذا فإِنَّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إِلى هذا المعنى بالقول: (ربّكم أعلم بما في نفوسكم). وهذه إِشارة إِلى أنَّ علم اللّه ثابت وَأزلي وأبدي وبعيد عن الإِشتباهات، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات!! لذلك فإِذا طغى الإِنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإِحسان إِليهم، ولكن بدون قصد وعن جهل، ثمّ تابَ بعد ذلك وأناب، وندم على ما فعل وأصلح، فإِنَّهُ سيكون مشمولا لعفو اللّه تعالى: (إِن تكونوا صالحين فإِنَّهُ كانَ للأوابين غفوراً). "أوّاب" مُشتقة مِن "أوب" على وزن "قوم" وهي تعني الرجوع مع الإِرادة، في حين أن كلمة "رجع" تقال للرجوع مع الإِرادة أو بدونها، لهذا السبب يقال للتوبة "أوبة" لأنَّ حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر)، إِلى اللّه، مع الإِرادة. وبما أنَّ كلمة "أوّاب" هي صيغة مِبالغة، لذا فإِنّها تقال للأشخاص الذين كلما أذنبوا رجعوا إِلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في "أوّاب" هي إِشارة إِلى تعدُّد عوامل العودة والرجوع إِلى اللّه. فالإِيمان بالله أوّلاً; والتفكير بحكمة يوم الجزاء والقيامة ثانياً; والضمير الحي ثالثاً; والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعاً، كل هذه العوامل تعمل سويةً لأجل عودة الإِنسان مِن طريق الإِنحراف، نحو اللّه. بحوث أوّلاً: إِحترام الوالدين في المنطق الإِسلامي بالرغم مِن أنَّ العاطفة الإِنسانية ومعرفة الحقائق، يكفيان لوحدهما لاحترام ورعاية حقوق الوالدين، إِلاّ أنَّ الإِسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل، أو أن تدلُّ عليها العاطفة الإِنسانية المحضة، لذلك تراه يُعطي التعليمات اللازمة إِزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإِسلام إِلاّ في قضايا نادرة أُخرى. وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إِلى هذا المعنى: ألف: في أربع سور قرآنية ذكر الإِحسان إِلى الوالدين بعد التوحيد مُباشرة، وهذا الإِقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإِسلام للوالدين. ففي سورة البقرة آية (83) نقرأ: (لا تعبدون إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً). وفي سورة النساء آية (36) نقرأ قوله تعالى: (واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إِحسانا). أما الآية (151) مِن سورة الأنعام فإِنّها تقول: (ألا تشركوا بهِ شيئاً وبالوالدين إِحساناً). وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى: (وقضى ربّك أن لا تعبدوا إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً). ب - إِنَّ مسألة إِحترام الوالدين ورعاية حقّهما مِن المنزلة بمكان، حتى أنَّ القرآن والأحاديث والرّوايات الإِسلامية، تؤكدان معاً على الإِحسان للوالدين حتى ولو كانا مُشركين، إِذ نقرأ في الآية (15) مِن سورة لقمان: (وإِن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً). ج - رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إِلى منزلة شكر اللّه تعالى، إِذ تقول الآية (14) مِن سورة لقمان: (أن أشكر لي ولوالديك). وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإِسلام وشريعته، بالرغم من أن نعم اللّه التي يشكرها الإِنسان لا تعدّ ولا تحصى. د - القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إِهانة للوالدين، ولا يجيز ذلك، ففي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قال: "لو علم اللّه شيئاً هو أدنى من أف لنهى عنه، وهو مِن أدنى العقوق، ومِن العقوق أن ينظر الرجل إِلى والديه فيحدّ النظر إِليهما"(3). هـ - بالرغم مِن أنَّ الجهاد يُعتبر مِن أهم التعاليم الإِسلامية، إِلاّ أنَّ رعاية الوالدين تعتبر أهم مِنهُ، بل لا يجوز إِذا أدّى الأمر إِلى أذية الوالدين، بالطبع هذا إِذا لم يكن الجهاد واجباً عينياً، وإِذ توفرَّ العدد الكافي مِن المتطوعين له. في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، أنَّ رجلا جاءَ إِلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لَهُ، إِنّي أُحبّ الجهاد، وصحتي جيدة، ولكن لي أمّ لا ترتاحُ لذلك، فماذا أفعل; فأجابه(صلى الله عليه وآله وسلم): "إِرجع فكن مَع والدتك فوالذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خيرٌ مِن جهاد في سبيل اللّه سنة"(4). ولكن عندما يجب الجهاد وجوباً عينياً، وتصبح بلاد الإِسلام في خطر يُلزم الجميع بالحضور ولا تُقبل جميع الاعذار حينئذ بما فيها عدم رضاء الوالدين. وما قلناه عن الجهاد ينطبق كذلك على الواجبات الكفائية الأخرى; وكذلك المستحبات. و - عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إِيّاك وعقوق الوالدين فإِنَّ ريح الجنّة توجد مِن ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ"(5). هذا التعبير ينطوي على إِشارة لطيفة، إِذ أن مِثل هؤلاء الأشخاص (العاقين) ليسوا لا يدخلون الجنّة وحسب، بل إنّهم يبقون على مسافة بعيدة جداً منها ولا يستطيعون الإِقتراب مِنها. وينقل "سيد قطب" حديثاً عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جاء فيه: "عن بريده عن أبيه، أنَّ رجلا كانَ في الطواف حاملا أُمّه يطوف بها، فرأى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله: هل أديت حقّها؟ فأجابه(صلى الله عليه وآله وسلم): "لا، ولا بزفرة واحدة". ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة، أو الطلقة الواحدة، التي تغشى الأم حين الولادة والوضع(6). إِذا أردنا نطلق العنان للقلم في هذا المجال، فسيطول بنا المقام ونبتعد عن التّفسير، لكنَ - بصراحة - يجب أن نعترف بأنَّ كل ما يُقال في هذا المجال فَهو قليل، لأنَّ للوالدين حق العيش والحياة على الولد. في نهاية هذه الفقرة، أشير إِلى أنَّ الوالدين - في بعض الأحيان - يقترحان على الأبناء أشياء غير منطقية وحتى غير شرعية، طبعاً في مثل هذه الحالات لا تجب الطاعة، ولكن مِن الأفضل أن يتسم التعامل معهما بالهدوء والمنطق، وأن تتم عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن وجه. أخيراً نختم الكلام بحديث عن الإِمام الكاظم(عليه السلام) قال فيه: إِنَّ رجلا جاءَ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله عن حق الأدب على ابنه، فأجابهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسب له"(7) (اي لا يفعل شيئاً يؤدي الى أن يسبّ الناس والديه). ثانياً: بحثٌ حول كلمة "قضى": "قضى" أصلها مِن كلمة "قضاء" بمعنى الفصل في شيء ما، إِمّا بالعمل وإِمّا بالكلام. وقال بعض: إِنَّ معناها هو وضع نهاية لشيء ما، وفي الواقع فإِنَّ المعنيين مُتقاربان. وبما أنَّ الفصل ووضع النهاية لهما معاني واسعة، لذا فإِنَّ هذه الكلمة لها استخدامات في مفاهيم مُختلفة، فالقرطبي في تفسيره مثلا ذكر لها ستة معان هي: * "قضى" بمعنى "أمر" كما في قوله تعالى: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إِلاّ إِياه). * "قضى" بمعنى "خلق" كما في قوله آية (12) مِن سورة فصلت (فقضاهنّ سبع سماوات في يومين). * "قضى" بمعنى "حكم" كما في الآية (72) مِن سورة طه (فاقضِ ما أنت قاض). * "قضى" بمعنى الإِنتهاء مِن شيء، ومثلهُ الآية (41) مِن سورة يوسف (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان). * "قضى" بمعنى "أراد" كما في سورة آل عمران آية (47): (إِذا قضى أمراً فإِنّما يقول لهُ كُن فيكون). * "قضى" بمعنى "عهد" كما في الآية (44) مِن القصص: (إِذ قضينا إِلى موسى الأمر)(8). وقد أضاف أبو الفتوح الرازي إِلى هذه المعاني قوله: *"قضى" بمعنى "الإِخبار والإِعلام" مِثل قوله تعالى: (وقضينا إِلى بني إِسرائيل في الكتاب)(9). ونستطيع أن نضيف إِلى هذا المعنى، معنى آخر تكون فيه "قضى" بمعنى "الموت" كما في آية (15) مِن سورة القصص (فوكزه موسى فقضى عليه). المهم هُنا، أنَّ بعض المفسّرين وضع أكثر مِن (13) معنى لكلمة في القرآن الكريم(10). ولكن لا يُمكن اعتبار كل هذه معاني مُتعدَّدة لكلمة "قضى" لأنها تنتهي إِلى مفهوم واحد. لذلك فإِنَّ أغلب المعاني المذكورة أعلاه هي مِن باب اختلاط المصداق بالمفهوم. لأنّ كل واحدة مِنها، ما هي في واقعها إِلاّ مصداقاً للمفهوم الكلّي والجامع المتمثل في "الفصل ووضع النهاية" فالقاضي بحكمه يضع نهاية للدعوى; والخالق يضع نهاية لما خلق; والمُخبر بأخباره يضع نهاية لما يريد أن يوضحه. ولكن لا يمكن الإِنكار أنَّ بعض هذه المصاديق، ومِن كثرة الإِستخدام قد وضعت معان جديدة لكلمة "قضاء" مِثل الحكم أو إِعطاء الأوامر. ثالثاً: بحثٌ حول معنى كلمة "أف": أصل "أف" كلّ مستقذر مِن وَسخ وقُلامةِ ظفر وما يجري مجراهما، ويقالُ ذلك لكلِّ مُستَخف به إِستقذاراً له. ويمكن أن نشتق مِنهُ فعلا، كمثل قولنا: قد أففت لكذا، إِذا قلت ذلك إِستقذاراً له. (مفردات الراغب صفحة 19). بعض المفسّرين مثل "القرطبي" في الجامع، و"الطبرسي" في "مجمع البيان" قالوا: "أف" و"تف" في الأصل بمعنى وسخ الظفر حيث أنّه ملوّث وتافة أيضاً، وينقل الرازي عن الأصمعي أنَّ "الأف" وسخ الأذن، و"التف" وسخ الظفر، حتى توسع المعنى ليشمل كل ما يُتأذى منه، وتذكر اللفظة أيضاً عند كل مكروه يصل إِليهم(11). وهُناك معان أُخرى لكلمة "أف" مِنها أنّها تعني الشيء القليل، أو الأذى مِن الرائحة الكريهة. البعض الآخر قال: إِنَّ أصل هذه الكلمة مأخوذ مِن "الصوت" الذي يخرج مِن الفم عندما ينفخ الإِنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه مِن الغبار الموجود عليها; وهذا الصوت يشبه كلمة "أوف" أو "أف" وقد أستفيد مِنها فيما بعد للتعبير عن التنفُّر وعدم الراحة مِن الأشياء الصغيرة بالخصوص. وخلاصة الذي ذكرناه أعلاه، وبالإِضافة إِلى قرائن أُخرى يمكن القول بأنَّ هذه الكلمة هي في الأصل "اسم صوت" والمقصود بالصوت هنا ما يصدره الإِنسان مِن فمه عندما يتذمَّر أو ينفخ لإِزالة شيء ما. ثمّ بعد ذلك تحول "اسم الصوت" إِلى كلمة يمكن اشتقاق الأفعال مِنها، وبذلك تكون المعاني التي ذكرناها مصاديق لهذا المفهوم العام والشامل. ومُنتهى الكلام هنا، أنَّ الآية تريد أن تقول بعبارة قصيرة وفصيحة وبليغة. إِنَّ احترام الوالدين ورعاية حقوقهما مهمان للغاية، بحيث لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إِيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة "أف" مِن معنى. ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ من بر وعقوق ﴿إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ﴾ طائعين له ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ﴾ التوابين عن تقصير صدر منهم في حق الوالدين ﴿غَفُورًا﴾ لتقصيرهم أو لذنب كل تائب.