التّفسير
ستةُ أحكام مهمّة:
في متابعة للأحكام الإِسلامية التي أثارتها الآيات السابقة، تتحدَّث هذه الآيات عن ستةِ أحكام إِسلامية أُخرى وردت في ست آيات، بعبارات قصيرة ومعان كبيرة، تأخذُ بلباب القلوب.
أوّلاً: تشير الآية إِلى عمل قبيح وجاهلي هو مِن أعظم الذنوب، فتنهى عنهُ: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إِملاق) فرزق هؤلاء ليس عليكم (نحنُ نرزقكم وإِيّاهم) أمّا علّة الحكم فهي: (إِنَّ قتلهم كان خطأ كبيراً).
هذه الآية تفيد أنَّ الوضع الإِقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعباً وسيئاً.
بحيث أنّهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر.
وهناك كلام بين المفسّرين فيما إِذا كانَ العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضاً خوفاً مِن الفقر!!
البعض يعتقد أنَّ الآيات تتحدث عن دفن البنت وهي حيَّة، هذا العمل الذي كان شائعاً في الجاهلية لسببين:
الأوّل: يتمثل في الخوف مِن وقوعهن في الأسر أثناء الحروب، الأمر الذي يجعل الأعراض والنواميس تحت رحمة العدو.
أمّا الثّاني: فيعود إِلى خوفهم مِن الفقر وعدم تمكنهم مِن توفير المؤونة للبنات اللاتي لا يقمن بعمل إِنتاجي، ويقتصر دورهن على الإِستهلاك فقط.
صحيح أنَّ الولد في مطلع حياته لا ينتج، لكنّه في عرف عرب الجاهلية يعتبر رأسمالا ثميناً، لا يمكن التفريط به.
البعض الآخر من المفسّرين يعتقد أن هناك نوعين مِن القتل، النوع الأوّل يشمل البنات، لحفظ الناموس حسب اعتقادهم الخاطيء.
أمّا النوع الثّاني فسببهُ الفقر.
وهو يشمل البنات والبنين معاً.
ظاهر الآية يدل على هذا المعنى، لوجود ضمير الجمع المذكر في الآية في "قتلهم" وهذا الضمير يطلق في اللغة العربية على الولد والبنت معاً، وبالتالي فإِنَّه يستبعد اختصاصه بالبنات وحدهن.
أمّا ما يقال مِن أنَّ الولد قادر على الإِنتاج، ويعتبر وجوده رأسمالا للمستقبل، فهذا صحيح في حال وجود القدرة المالية، أمّا في حالة عدم القدرة على تأمين حياة هؤلاء الأولاد فالراي الثّاني هو الاصح لهذا الدليل.
المهم أنَّ هذا التصرف الجاهلي يرتبط بعقيدة وهمية تقول: إِنَّ الأب والأُم هما الرازقان، بينما اللّه سبحانهُ وتعالى يقول: اطردوا هذا التفكير الشيطاني مِن أذهانكم وابذلوا سعيكم ووسعكم واللّه يؤمن رزقكم ورزقهم.
وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري، فإِنَّ عصرنا الحاضر - وفي أكثر مُجتمعاته رُقياً وتقدماً - يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إِذ أنَّ العمليات الواسعة في إِسقاط الجنين وقتله خوفاً مِن الضائقة المالية وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل، (للمزيد راجع تفسير الآية (151) مِن سورة الإِنعام).
إِنَّ تعبير "خشية إِملاق" إِشارة لطيفة إِلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه، حيثُ يُفيد التعبير أنَّ الوهم ومجرّد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرَّم.
لا الدوافع الحقيقية.
كما يجب الإِنتباه إِلى أنَّ "كان" في (كان خطأً كبيراً) هي فعل ماض، يُفيد هنا التأكيد على أنَّ قتل الأبناء يعتبر مِن الذنوب العظيمة التي كانت معروفة، منذ القدم بين البشر، وأنَّ الفطرة الإِنسانية السليمة تحمل دوافع الرفض وإِلادانة لِمثل هذا السلوك الذي لا يختص بزمان معين دون غيره.
﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ مخافة فقر ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا﴾ إثما عظيما.