الآية تجيب على ذلك بأنَّ هؤلاء أنفسهم يذهبون إِلى بيت الله، وَيلجأون للتقرب مِن الذات الإِلهية المقدَّسة لقضاء حوائجهم وَحل مشاكلهم وَتحقيق ما يريدونه: (أُولئك الذين يدعون يبتغون إِلى ربّهم الوسيلة... أيّهم أقرب ... وَيرجون رحمته ... وَيخافون عذابه ... إِنّ عذاب ربّك كان محذوراً).
في تفسير قوله تعالى (أيّهم أقرب) لمفسري القرآن العظيم آراء مُختلفة في ذلك، نحاول استعراضها فيما يلي:
ذهب بعض كبار مفسري الإِسلام إِلى: أنّ التعبير القرآني يُشير إِلى أنّ أولياء الله يذهبون إِلى الملائكة والأنبياء (الذين يعبدهم المشركون من دون الله)، أيّهم أقرب إِلى الله فيقربون إِليه أكثر.
وَهؤلاء لا يملكون شيئاً مِن عِندهم، بل كل ما يملكونه هو مِن الله، وَكلما يرتفعون في المقام تزداد طاعتهم وَعبوديتهم(3).
البعضُ الآخر مِن المفسّرين يعتقد بأنّ مفهوم التعبير القرآني هو أنّهم يحاولون التسابق في التقرُّب مِن الخالق، ففي طريق طاعة الله والتقرب مِن ذاته المقدَّسة اشترك هؤلاء في مسابقة معنوية، حيثُ يحاول كل واحد مِنهم أن يتقدم على الآخر في الميدان.
والآية - بعد ذلك - تقول: الذين يتصفون بهذه الصفات هل يُمكن عبادتهم مِن دون الله، وَهل هُم مستقلون(4)؟
أمّا التّفسير الذي يقول: إِنّهم يسلكون أي وسيلة تقربهم مِن الله، فاحتمالُه بعيد جدّاً، لأنَّ ضمير (هُم) في "أيّهم" والذي يُستخدم لجمع المذكر، لا يتلائم مَع هذا المعنى، بل كان يجب أن يكون "أيّها" ليستقيم الرأي و بالإضافة إِلى ذلك فإنَّ جملة (أيّهم أقرب) تقع على شكل مُبتدأ وَخبر، في حين أنَّها وفقاً لهَذا المعنى يجب أن تكون على شكل مفعول أوبدلا عن المفعول.
ماهي الوسيلة؟
هَذِهِ الكلمة استخدمت في موضعين في القرآن الكريم، الموضع الأوّل في هَذِهِ الآية، والآخر في الآية (35) مِن سورة المائدة في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وابتغوا إِليه الوسيلة وَجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون).
وَقد قُلنا هُناك: إِنَّ (الوسيلة) تعني (التقرب) أو الشيء الذي يبعث على التقرُّب (أو النتيجة التي يمكن الحصول عليها مِن التقرُّب).
على هذا الأساس فإنَّ هُناك مفهوماً واسعاً جدّاً لكلمة (الوسيلة) يشمل كل عمل جميل ولائق، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة أُخرى، لأنَّ كل هَذِهِ الأُمور تكون سبباً في التقرب مِن الله.
ونقرأ في الكلمات الحكيمة للامام علي(ع) في الخطبة (110) مِن نهج البلاغة قوله(ع): "إِنَّ أفضلَ ما توسلَ بِهِ المتوسلون إِلى الله سبحانه وتعالى، الإِيمان بِهِ وَبِرَسُولِهِ، والجهادُ في سبيله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وَصومُ شهرِ رمضان، وَحج البيت واعتمارُه، وَصلة الرحم، وصدقة السّر، وصدقة العلانية، وَصنائعُ المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان"(5).
شفاعة الأنبياء والصالحين والمقرّبين التي تكون مقبولة في حضرة الله تبارك وَتعالى، كما تصرح بذلك الآيات القرآنية، تعتبر أيضاً مِن وسائل التقرُّب.
وَينبغي هُنا عدم التباس الأُمور، إِذ أنَّ التوسُّل بالمقربين مِن الله تعالى لا يعني أنَّ الإِنسان يريد شيئاً مِن النّبي أو الإِمام بشكل مستقل، أو أنّهم يقومون بحل مشاكله بشكل مستقل عن الله، بل الهدف هو أن يضع الإنسان نفسه في خطّهم وَيطبق برامجهم، ثمّ يطلب مِن الله بحقهم، حتى يعطي الله إِذن الشفاعة لهم.
(لمزيد مِن التفاصيل يُراجع التّفسير الأمثل، الآية (53: من سورة المائدة).
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أي يدعونهم آلهة ﴿يَبْتَغُونَ﴾ يطلبون ﴿إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ بالقربة بالطاعة ﴿أَيُّهُمْ﴾ هو ﴿أَقْرَبُ﴾ إليه ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ كسائر عباده فكيف تزعمونهم آلهة ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ حقيقا بأن يحذر.