لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير ما هي الرّوح؟ تبدأ هذه الآية في الإِجابة على بعض الأسئلة المهمّة للمشركين ولأهل الكتاب، إِذ تقول: (ويسألونك عن الروحِ قل الروحُ مِن أمرِ ربّي وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا). مفسّرو الإِسلام الكبار - السابقون مِنهم واللاحقون - لهم كلامُ كثير عن الروح ومعناها، ونحن في البداية سنشير إِلى معنى كلمة (روح) في اللغة، ثمّ موارد استعمالها في القرآن، وأخيراً تفسير الآية والرّوايات الواردة في هذا المجال. وفي هذا الصدد يمكن ملاحظة النقاط الآتية: 1 - (الرّوح) في الأصل اللغوي تعني (النفس) والبعض يرى بأنَّ (الروح) و(الرّيح) مُشتقّتان مِن معنىً واحد، وإِذ تمَّ تسمية روح الإِنسان - التي هي جوهرة مستقلة - بهذا الإِسم فذلك لأنّها تشبه النَفَسَ والريح مِن حيث الحركة والحياة، وكونها غير مرئية مثل النَفَسَ والريح. 2 - استخدمت كلمة (الرّوح) في القرآن الكريم في موارد ومعاني مُتعدِّدة، فهي في بعض الأحيان تعني الروح المقدَّسة التي تساعد الأنبياء على أداء رسالتهم كما في الآية (253) مِن سورة البقرة والتي تقول: (وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس). وفي بعض الأحيان تطلق على القوّة الإِلهية المعنوية التي تقوي المؤمنين وتدفعهم، كما في قوله تعالى في الآية(22) مِن سورة المجادلة: (أُولئك كتب في قلوبهم الإِيمان وأيدهم بروح منه). وفي موارد أُخرى تأتي للدلالة على (الملك الخاص بالوحي) ويوصف بـ (الأمين)، كما في الآية (193) مِن سورة الشعراء: (نزَلَ بهِ الرّوح الأمين على قلبك لتكون مِن المُنذرين). وفي مكان آخر وردت بمعنى (الملك الكبير) مِن ملائكة الله الخاصين، أو مخلوق أفضل مِن الملائكة كما في الآية (رقم 4) مِن سورة القدر: (تنزل الملائكة والرّوح فيها بإِذن ربّهم مِن كل أمر). وفي الآية (38) مِن سورة النباء: (يوم يقوم الرّوح والملائكة صفاً). ووردت - أيضاً - بمعنى القرآن أو الوحي السماوي، كما في الآية (52) مِن سورة الشورى في قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إِليك روحاً مِن أمرنا). وأخيراً وردت الروح في القرآن الكريم بمعنى الروح الإِنسانية، كما في آيات خلق آدم: (ثمّ سوّاه ونفخ فيه مِن روحه)(1). وكذلك قوله تعالى في الآية (29) مِن سورة الحجر: (فإِذا سويته ونفخت فيه مِن روحي فقعوا لهُ ساجدين)(2). 3 - والآن لنر مِن خلال هذه النقطة ما هو المقصود بالروح في الآية التي نبحثها؟ ما هي الرّوح التي سأل عنها جماعةُ رسول الله(ص) فأجابهم بقوله تعالى: (ويسئلونك عن الروحِ قل الروحُ مِن أمرِ ربّي وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا)؟ يُمكن أن نستفيد مِن مجموع القرائن الموجودة في الآية أنَّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإِنسانية، هذه الروح العظيمة التي تُميِّز الإِنسان عن الحيوان، وقد شرفتنا بأفضل الشرف، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا مِنها، وبمساعدتها نجول في الأرض ونتأمّل السماء، نكتشف أسرار العلوم، ونتوغل في أعماق الموجودات ... إِنّهم أرادوا معرفة حقيقة أعجوبة عالم الخلق!! وَلأنَّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة، ولها أُصول تحكمها تختلف عن الأُصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية، لذا فقد صدر الأمر إِلى الرّسول(ص) أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة: (قل الروح مِن أمرِ ربّي). ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا مِن هذا الجواب فقد أضافت الآية: (وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا) حيثُ لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم مِن أنّها أقرب شيء إِليكم. وفي تفسير العياشي نقل الإِمام الباقر والصّادق(عليهما السلام) أنّهما قالا في تفسير آية (يسألونك عن الروح) ما نصَّه: "إِنّما الروح خلق مِن خلقه، لهُ بصرٌ وقوّة وتأييد، يجعلهُ في قلوب الرسل والمؤمنين"(3). وفي حديث آخر عن الإِمامين الباقر والصادق أنّهما(عليهما السلام) قالا: "هي مِن الملكوت، مِن القدرة"(4). وفي الرّوايات المتعدِّدة التي بين أيدينا من طرق الشيعة وأهل السنّة نقرأ أنّ هذا السؤال عن الروح أخذهُ المشركون مِن علماء أهل الكتاب الذين يعيشون مع قريش، كي يختبروا به رسول الله(ص)، إِذ قالوا لهم: إِذا أعطاكم الرّسول(ص)معلومات كثيرة عن الروح فهذا دليل على عدم صدقه، لذلك نراهم قد تعجبوا مِن إِجابة الرّسول(ص) المليئة بالمعاني رغم قصرها وقلّة كلماتها. ولكن نقرأ في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، في تفسير هذه الآية، أنَّ الروح مخلوق أفضل مِن جبرائيل وميكائيل، وكان هذا المخلوق برفقة النّبي(ص) وبرفقة الأئمّة الصادقين(عليهم السلام) من أهل بيته مِن بعده، حيثُ كان يعصمهم مِن أي انحراف أو زلل خلال مسيرتهم(5). إِنَّ هذه الرّوايات لا تعارض التّفسير الذي قلناه، بل هي مُتناسقة معهُ وداعمة له، لأنَّ الروح الإِنسانية لها مراتب ودرجات، فتلك المرتبة مِن الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّاً، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإِنَّ روحاً مِثل هذه هي أفضل مِن الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبّر) أصالة واستقلال الرّوح: يُظهر تأريخ العلم والمعرفة الإِنسانية أنَّ قضية الروح وأسرارها الخاصّة كانت محط توجَّه العلماء، حيث حاول كل عالم الوصول إِلى محيط الروح السري. ولهذا السبب ذكر العلماء آراء مُختلفة وكثيرة حول الروح. ومِن الممكن أن تكون علومنا ومعارفنا اليوم - وكذلك في المستقبل - قاصرة عن التعرف على جميع أسرار الروح والإِحاطة بتفصيلاتها، بالرغم مِن أنَّ روحنا هي أقرب شيء لدينا مِن جميع ما حولنا. وبسبب الفوارق التي تفصل بين جوهرة الروح وبين ما نأنس بهِ مِن عوالم المادة، فإِنّنا لن نحيط بأسرار وكنه الروح، أعجوبة الخلق، والمخلوق الذي يتسامى على المادة. ولكن كل هذا لا يمنعنا مِن رؤية أبعاد الروح بعين العقل، وأن نتعرف على النظم والأُصول العامّة الحاكمة عليها. إِنَّ أهم أصل يجب أن نعرفُه هو قضية أصالة واستقلال الروح، في مقابل آراء المذاهب الوضعية التي تذهب إِلى مادية الروح، وأنّها مِن افرازات الذهن والخلايا العصبية ولا شيء غير ذلك! وسنبحث هذا الموضوع هنا ونتوسع فيه، لأنَّ مسألة (بقاء الروح) وقضية (التجرد المطلق أو عالم البرزخ) يعتمدان على هذا الأمر. ولكن قبل الورود في البحث لا بدَّ من ذكر ملاحظة هامّة، وهي أن تعلق الروح بجسم الإِنسان ليست - وكما يظن البعض - مِن نوع الحلول، وإِنّما هي نوع مِن الإِرتباط والعلاقة القائمة على أساس حاكمية الروح على الجسم وتصرفها وتحكمها به، حيثُ يشبهها البعض بعلاقة تعلق المعنى وارتباطه باللفظ. هذه المسألة - طبعاً - ستتوضح أكثر ضمن حديثنا عن استقلال الروح. والآن لنرجع إِلى أصل الموضوع. لا يشك أحدٌ في أنَّ الإِنسان يختلف عن الحجارة والخشب، لأنّنا نشعر - بشكل جيِّد - بأنّنا نختلف عن الجمادات، بل وحتى عن النباتات، فنحن نفهم ونتصوّر ونصمِّم، ونريد، ونحب، ونكره، و...ألخ. إِلاَّ أنَّ الجمادات والنباتات ليس لها أيّ مِن هذه الإِحساسات، لذلك فثمّة فرق أساسي بيننا وبينها ويتمثل في امتلاكنا للروح الإِنسانية. ثمّ إِنَّهُ لا الماديون ولا أي مجموعة فكرية مذهبية أُخرى تنكر أصل وجود الروح، ولذلك يعتبرون علوماً مِثل علم النفس (سيكولوجيا)، وعلم العلاج النفسي (بسيكاناليزم) مِن العلوم المفيدة والواقعية، وهذين العلمين بالرغم مِن أنّهما يعيشان مراحل طفولتهما بلحاظ بعض العوامل والقضايا، ولكنّهما مع ذلك يدخلان اليوم ضمن المناهج الدراسية في الجامعات، حيث يقوم أساتذة كبار بالبحث والتحقيق فيهما، وكما سنلاحظ، فإِنَّ النفس والروح ليستا حقيقتين مُنفصلتين، بل هما مراحل مُختلفة لحقيقة واحدة. وإِنّنا هُنا سنطلق كلمة (النفس) عندما يتعلق الحديث بالإِرتباط بين الروح والجسم والتأثير المتبادل لكل مِنهما على الآخر. أمّا عندما يكون الحديث عن الظواهر الروحية مع غض النظر عن البدن فإِنّنا سنطلق عليها كلمة (الروح). وخلاصة القول: أنّه أحد يستطيع أن ينكر حقيقة وجود الروح والنفس عندنا. والآن ينبغي أن نتفحَّص مجالات السجال والحرب بين المذاهب المادية مِن جهة، وبين مجموع هذه المذاهب وتيارات ومذاهب الفلاسفة الروحيين والميتافيزيقيين مِن جهة أُخرى. إِنَّ العلماء الإِلهيين والفلاسفة الروحيين يعتقدون بأنَّ الإِنسان وبالإِضافة إِلى المواد التي تدخل في تشكيل جسمه، ينطوي وجوده على حقيقة جوهرية أُخرى لا تتجلى فيها صفات المادة، وإِن جسم الإِنسان يخضع لتأثيرها بشكل مُباشر وفاعل. وبعبارة أُخرى، فإِنَّ الروح هي حقيقة من حقائق ما وراء الطبيعة (أي ميتافيزيقية) حيث أنَّ تركيبها وفعاليتها تختلف عن تركيب وفاعلية عالم المادة; صحيح أنّها مرتبطة مع عالم المادة، إِلاَّ أنّها ليست مادة ولا تملك خواص المادة. في المقابل هُناك الفلاسفة الماديون الذين يقولون: إِنّنا لا نعرف موجوداً مستقلا عن المادة يسمى بالروح، أو أي اسم آخر، وإِنَّ كل ما موجود هو هذه المادة الجسمية و آثارها الفيزيائية أو الكيميائية. إِنّنا نملك جهازاً يسمّى (الذهن والأعصاب) وهو يقوم بقسم مهم مِن أعمالنا الحياتية، وهو مثل باقي الأجهزة المادية حيث يخضع في نشاطه لقوانين المادة. إِنّنا نملك غدداً تحت اللسان تُسمّى الغدد اللعابية والتي تقوم بفاعلية فيزيائية وكيميائية، فعندما يدخل الطعام إِلى الفم تقوم هذه الغدد بالعمل بشكل أوتوماتيكي حيثُ تقوم بإِفراز السائل بالمقدار الذي يحتاجه الطعام حتى يلين ويُمضغ بشكل جيِّد، فهناك - أطعمة تحتوي على سوائل وهناك أطعمة قليلة السوائل أو جافّة، وكل نوع مِن هذه الأطعمة يحتاج إِلى مقدار معين مِن هذه السوائل (اللعاب). المواد الحامضية تزيد مِن عمل هذه الغدد، خاصّة عندما تكون كثافة الطعام كبيرة، حتى يحصل الطعام على كميّة أكبر مِن السوائل ليلين، ومن ثمّ لا تصاب جدران المعدة بضرر. عندما نبلع الطعام ينتهي عمل هذه الغدد والقنوات. وخلاصة القول: إِنَّ هُناك نظاماً عجيباً يتحكم بهذه الغدد والقنوات بحيث أنّها إِذا فقدت تعادلها لمدّة ساعة، فإِمّا أن يسيل اللعاب بشكل دائم عبر الشفتين، أو أن يكون الفم جافاً بحيث لا يمكن ابتلاع الطعام. هذا هو العمل الفيزيائي للعاب، إِلاَّ أنّنا نعلم أنَّ العمل الأهم للعاب هو عمله الكيمياوي، فهناك مواد مُتنوعة مُتداخلة معهُ حيث تتفاعل مع الطعام وتقلل مِن تعب المعدة. الماديون يقولون: إِن عقلنا وأعصابنا يشبهان عمل الغدد اللعابية وما شابهها مِن أجهزة الجسم مِن حيث العمل الفيزيائي والكيميائي (حيث يسمّى المجموع فيزيوكيميائي) وهذا العمل الفيزيوكيميائي نحنُ نسمّيه بـ "الظواهر الرّوحية أو "الرّوح". الماديون يقولون: عندما نُفكّر تصدر سلسلة مِن الأمواج الكهربائية مِن عقلنا، هذه الأمواج يمكن التقاطها اليوم بواسطة أجهزة خاصّة وتدوينها على الأوراق ودراستها، خاصّة في مستشفيات الأعصاب، حيث يتمّ تشخيص الأمراض العصبية ومعالجتها، وهذه هي الفعالية الفيزيائية لعقلنا. إِضافة إِلى هذا، فإِنَّ خلايا العقل عند التفكير، وكذلك عندِ النشاطات العصبية المختلفة، تقوم بمجموعة مِن الأفعال والانفعالات الكيمياوية. لذلك فإِنَّ الروح والصفات الروحية ليست سوى الخواص الفيزيائية والأفعال الكيميائية للخلايا العقلية والعصبية. إِنَّ الماديين يستفيدون مِن كل هذا العرض لبلورة النتائج التالية: 1 - بما أنَّ نشاط الغدد اللعابية وآثارها المختلفة لم تكن موجودة قبل وجود جسم الإِنسان، بل إِنّها وُجدت بعد وجوده، لذا فإِنَّ النشاطات الروحية تظهر بعد ظهور الدماغ والجهاز العصبي، وتموت هذه الفعاليات بموت الإِنسان. 2 - الروح من خواص الجسم، إِذن فهي مادية وليس لها أي صفات ميتافيزيقية. 3 - الروح خاضعة لجميع القوانين التي تحكم جسم الإِنسان. 4 - ليس هُناك وجود مستقل للروح بدون جسم، ولا يمكن أن يكون ذلك. دلائل الماديين على عدم استقلال الروح: لقد أورد الماديون شواهد لإِثبات دعواهم بأنَّ الروح والفكر وسائر الظواهر الروحية هي قضايا مادية، أي تكون انعكاساً للخواص الفيزيائية والكيميائية للخلايا العصبية والدماغية، ونستطيع أن نشير هُنا إِلى هذه الشواهد مِن خلال هذه النقاط: 1 - "يمكن الإِشارة وبسهولة إِلى تعطُّل قسم مِن الأغراض الروحية عند عطل أو إِصابة قسم مِن المراكز العصبية أو سلسلة مِن الأعصاب"(6). فمثلا تمّ إِختبار حالة رُفعَ فيها قسم مِن دماغ الطير، ولم يؤد ذلك إِلى موته، بل إِنَّهُ فقد قسماً كبيراً مِن معلوماته، مثلا يفقد شهيته للطعام فإِذا أعطيناه طعاماً فإِنَّهُ يأكلهُ ويهضمه، ولكنّا إِذا لم نعطه ووضعنا الحَب أمامه فإِنَّهُ لا يأكل وسيموت مِن الجوع. كما شوهد أنَّ إِصابة دماغ الإِنسان نتيجة للحوادث أو الأمراض ببعض الضربات أو الصدمات، يؤدي إِلى فقدان الدماغ لجزء كبير مِن نَشاطه، حيث ينسى الإِنسان جانباً مِن معلوماته. وقد قرأنا قبل فترة في الصحف أنَّ شاباً مُثقفاً من مدينة (الأهواز) الايرانية تعرض لضربة على دماغه في حادثة، فنسي جميع أحداث حياته الماضية حتى أنَّهُ نسي أُمّه وأُخته ونسي نفسهُ وعندما جاؤوا بهِ إِلى بيته والمكان الذي وُلِدَ وترعرع فيه، فإِنَّهُ لم يعرف هذا المكان وبدا فيه غريباً. إِنَّ هذه الأُمور وما شابهها تثبت وجود علاقة قريبة بين نشاطات الخلايا الدماغية والظواهر الروحية. 2 - "عندما نفكر تكثر التغييرات المادية على سطح الدماغ .. الدماغ يحتاج إِلى طعام أكثر، ويطرح مواد فسفورية أكثر. ولكن عند النوم فإِنَّ الدماغ لا يقوم بالتفكير، لذا فإِنَّهُ يحتاج إِلى طعام قليل، وهذا يعتبر دليلا على أنَّ الآثار الفكرية للإِنسان تترشح من فعاليات مادية"(7). 3 - تُظهر التجارب أن وزن أدمغة المفكرين هي أكثر مِن الحد المتوسط (الحد المتوسط لدماغ الرجل في حدود (1400) غرام، والحد المتوسط لدماغ المرأة أقل مِن هذا بقليل)، وهذا دليل آخر - بزعم الماديين - على مادية الروح. 4 - إِذا كانت قوة التفكير والظواهر الروحية دليلا على الوجود المستقل للروح، فيجب أن نقبل ذلك أيضاً في الحيوانات، لأنّها تملك قدرة الإِدراك. والخلاصة: إِنّ الماديين في أدلتهم بأننا ندرك ونحس بأنَّ روحنا ليست موجوداً مستقلا، والتطورات المتعلقة بمعرفة الإِنسان ودراسته تُؤيد هذهِ الحقيقة. وَمِن مجموع هذه الإِستدلالات، يستنتج هؤلاء أنَّ التقدم الفيزيولوجي الإِنساني والحيواني يوضحان يوماً بعد آخر حقيقة وجود العلاقة القربية بين الظواهر الروحية والخلايا الدماغية. نقد هذه النظرية: الخطأ الكبير الذي وقع فيه الماديون في أدلتهم واستنتاجاتهم، أنّهم خلطوا بين (وسائل العمل) و (القائم بالعمل). ولأجل معرفة هذا الخلط نذكر هنا مثالا للتوضيح نرجو أن يدقق فيه القاريء الكريم جيداً: مُنذ زمان غاليلو وحتى يومنا الحاضر، حصل تحوُّل كبير في دراسة حركة الأفلاك والأجرام السماوية، فغاليلو الإِيطالي استطاع وبمعونة أحد صانعي العوينات الزجاجية مِن صناعة مجهر صغير، فطار غاليلو بهِ فرحاً، بحيث أنَّهُ شرَعَ عند المساء بدراسة نجوم السماء بواسطة مجهره الذي أظهر لهُ أوضاعاً عجيبة إِذ أنَّهُ شاهد عالم لم يستطيع أي إِنسان مشاهدته حتى ذلك اليوم. لقد فهم غاليلو أنَّهُ توصِّل إِلى اكتشاف مهم، ومُنذ ذلك اليوم أصبحت دراسة أسرار العالم الأعلى في متناول الإِنسان. لقد كان الإِنسان حتى ذلك اليوم مثل الفراشة التي لم تكن ترى مِن حولها سوى بعض سيقان الشجر، أمّا عندما صنع الإِنسان التسكوب فإِنَّهُ استطاع أن يشاهد مِن حوله مقداراً مِن أشجار الغابة الكبيرة. لقد تطّور العمل في التسكوب حتى وصل إِلى وضعه الراهن حيث بنيت مختبرات كبيرة ومراصد جبارة يبلغ قطر عدساتها عدّة امتار لقد نصبت هذه المراصد في أعالي الجبال المرتفعة حيثُ يتميز الأفق بصفاء خاص ممّا يسهل على الفلكيين دراسة النجوم، وبواسطة هذه المراصد الجبارة استطاع الإِنسان أن يُشاهد عوالم أُخرى كان عاجزاً عن مشاهدتها بالعين المجرّدة قبل ذلك. والآن لِنتصوّر أن الإِنسان يكون بمقدوره مستقبلا أن يتوصل إِلى صناعة مرصد بقطر (100) متر بحيث يكون حجم الأجهزة المستخدمة فيه بحجم مدينة بكاملها، فما هي يا ترى العوالم التي سوف تنكشف لهُ بواسطة ذلك؟ والآن نطرح هذا السؤال: لو أخذت مِنّا هذه المجاهر والعدسات، أفلا يتعطَّل قسم مِن معلوماتنا ومعارفنا حول السماوات ... وهل الناظر الأصلي نحنُ أم التلسكوب والمجهر؟ هل المجهر والتلسكوب وسيلة نستطيع بواسطتها الرؤيا والمشاهدة، أم أنّها هي التي تقوم بالعمل والنظر الحقيقي؟ وفيما يخصُ الدماغ لا يستطيع أي شخص أن يُنكر أنَّهُ بدون الخلايا الدماغية لا يمكن أن تتمّ عملية التفكير، ولكن هل الدماغ هو وسيلة عمل للروح، أم أنَّهُ هو الروح؟ وخلاصة القول: إِنّ جميع الأدلة التي ذكرها الماديون تُثبت وجود الإِرتباط بين خلايا العقل والدّماغ وبين إِدراكاتنا، إِلاَّ أنَّ أياً مِنها لا يُثبت أنَّ الدماغ يقوم بالإِدراك، بل أنَّهُ مجرّد وسيلة لذلك. وهنا يتّضح لماذا لا يفهم الموتى شيئاً، إِذ أنّهم وبسبب عدم وجود الإِرتباط بين الروح والبدن يعجزون عن ذلك، وبالتالي فإِنَّ الموت لا يعني فناء الروح وانعدامها، ومثل الميت مَثَلُ السفينة أو الطائرة التي عُطّل فيها جهاز اتصالها (اللاسلكي) فالسفينة والطائرة بمن فيهما موجودون إِلاَّ أنَّ اتصالهم مع الساحل أو المطار مقطوع بسبب فقدانهم لوسيلة الإِرتباط والإِتصال. أدلة استقلال الروح: كان الكلام حتى الآن عن الماديين الذين يصرّون على أنَّ الظواهر الروحية هي افرازات لخلايا الدماغ، ويعتبرون الفكر والإِبداع والحب والتنفر والغضب وجميع العلوم، مِثل القضايا المادية التي تخضع لأسلوب العمل المختبري وتشملها قوانين المادة، إِلاَّ أنَّ الفلاسفة الذي يعتقدون باستقلالية الروح ذكروا أدلة قاطعة على نفي هذه العقيدة، منها: أوّلا: ادراك الواقع الخارجي إِنَّ أوّل سؤال يمكن أن نطرحهُ على الماديين، هو أنَّهُ إِذا كانت الأفكار والظواهر الروحية هي نفسها الخواص (الفيزيكيميائية) للدماغ، ففي مثل هذه الحالة ينبغي أن تنعدم الخلافات والفروق بين عمل الدماغ وبين عمل المعدة أو الكلية أو الكبد، حيثُ أنّ عمل المعدة هو التركيب الأساس ومجموعةُ مِن الفعاليات الفيزيائية والكيميائية، إِذ بواسطة نشاط معين وإِفرازات حامضية تتم عملية هضم الطعام ويصبح جاهزاً للإِمتصاص مِن قبل الجسم. وإِذا كان ا ِفراز اللعاب عملا فيزيائياً وكيميائياً في آن واحد، فإِنّنا نرى أنَّ العمل الروحي يختلف عن هذه الأعمال. إِن كل أعمال أجهزة الجسم لها تشابه بدرجة معينة مع بعضها البعض، ما عدا (الدماغ) الذي لهُ وضع استثنائي، إِنَّ أجهزة الجسم مرتبطة جميعاً بجوانب داخلية، في حين أنَّ الظواهر الروحية لها جهة خارجية وتخبرنا عن الواقع الخارجي المحيط بنا. ولأجل توضيح هذا الكلام يجب ذكر بعض الملاحظات: الملاحظة الأُولى: هل هُناك عالم خارج وجودنا؟ من البديهي وجود مثل هذا العالم، أمّا المثاليين الذين يُنكرون وجود العالم الخارجي ويقولون بأنَّ كل ما وجود هو (نحن) و (تصوراتنا) ويعتبرون العالم الخارجي مجموعة مِن التصورات والأحلام التي تُشاهد في النوم، فهؤلاء على خطأ، وقد أثبتنا خطأهم هذا في أحد الأبحاث، وأثبتنا أنّه كيف يتحول هؤلاء المثاليون إِلى واقعيين في العمل، إِذ أن ما يفكرون بهِ في محيط مكتباتهم يَنسونَهُ عِندما يتجولون في الشارع ويتنقلون مِن مكان إِلى آخر. الملاحظة الثّانية: هل ندرك ونعلم بوجود العالم الخارجي، أم لا؟ بالطبع الجواب على هذا السؤال بالإِيجاب، لأنّنا نملك معرفة كبيرة عن العالم الخارجي، وعندنا معلومات كثيرة عن الموجودات المحيطة بنا. والآن نصل إِلى هذا السؤال: هل هُناك وجود للعالم الخارجي في داخل وجودنا؟ طبعاً لا، ولكن ارتساماته وصورته منعكسة في أذهاننا حيث نستفيد مِن خاصية (انعكاس الواقع الخارجي) لإِدراك العالم الخارجي. هذا الإِدراك الذهني للعالم الخارجي - في الحقيقة - ليس من الخواص الفيزيكيميائية للدماغ لوحدها، إِذ أنَّ هذه الخواص وليدة إِحساسنا وتأثرنا بالعالم الخارجي، وفي الاصطلاح: فإِنّها معلولة لها. ونفس الشيء يقال بالنسبة لتأثير الطعام على معدتنا، فهل تأثير الطعام على معدتنا والنشاطات الفيزيائية والكيميائية تكون سبباً لمعرفة المعدة بالأطعمة؟ إِذن كيف يستطيع الدماغ أن يتعرف على عالمه الخارجي؟ بعبارة أُخرى نقول: في التعرف على الموجودات الخارجية هُناك حاجة إِلى نوع مِن الإِحاطة بها، وهذه الإِحاطة ليست مِن عمل الخلايا الدماغية، إِذ الخلايا الدماغية تتأثر بالخارج فقط، وهذا التأثُر مَثَلَهُ كمثل سائر أجهزة الجسم، وهذا الموضوع ندركهُ نحنِ بشكل جيد. وإِذا كان مجرّد التأثُّر بالخارج دليلا على إِدراكنا ومعرفتنا بالواقع الموضوعي الخارجي، فيجب أن تتساوى في ذلك معدتنا ولساننا وأن يكون لها نفس قابلية الفهم، في حين أنّنا نعرف أنَّ واقع الحال ليس كذلك. وخلاصة القول: إِنَّ الوضع الإِستثنائي لإِدراكنا دليل على أنَّ هُناك حقيقة أُخرى كامنة فيها، بحيث أنَّ نظامها والقوانين المتحكمة فيه تختلف عن القوانين والنظم الفيزيائية والكيميائية. (فتدبّر ذلك). ثانياً: وحدة الشخصية الدليل الآخر على استقلال الروح وتمايزها هو مسألة وحدة الشخصية في طول عمر الإِنسان. إِذا أردنا نشك في كل شيء، فإِنّنا لا نستطيع أن نشك في موضوع وجودنا (أي مقولة: أنا موجود) وليس ثمّة شك في وجودي وفي علمي بوجودي أو ما يصطلح عليه بـ "العلم الحضوري" وليس "العلم الحصولي" أي أنّني موجود عند نفسي وغير مُنفصل عنها. على أي حال إِنَّ معرفتنا بأنفسنا من أ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ التي يحيى بها بدن الإنسان ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ حصل بإرادته المعبر عنها ب كن بلا مادة أو حدث بتكوينه على أن سؤالهم عن قدمه وحدوثه أو بعلمه الذي استأثر به لما قيل أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن الروح فإن أجاب فليس نبيا وإن أبهم كما في التوراة فهو نبي وقيل الروح القرآن من أمر ربي من وحيه، وعنهم (عليهم السلام): الروح خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل يكون مع النبي والأئمة يسددهم ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ وفوق كل ذي علم عليم.