لماذا هذا التلطُّف: (إِنّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملّتهم).
ثمَّ: (ولن تُفلحوا إِذاً أبداً).
بحوث
1 - أزكى الطعام
مع أنَّ أصحاب الكهف كانوا بعد يقظتهم بحاجة شديدة إِلى الطعام، إِلاَّ أنّهم قالوا للشخص الذي كلَّفوه بشراء الطعام: لا تشتر الطعام مِن أيّ كان، وإِنّما انظر أيُّهم أزكى وأطهر طعاماً فأتنا منهُ.
بعض المفسّرين تأولوا المعنى وقالوا: إِنَّ المقصود مِن (أزكى) هو ما يعود إِلى الحيوانات المذبوحة، إِذ أنّهم كانوا يعلمون أنَّ في تلك المدينة مَن يبيع لحم الميتة (أي غير المذبوح على الطريقة الشرعية) وأنَّ البعض يتكسَّب بالحرام، لذلك أوصوا صاحبهم بضرورة أن يتجنب مثل هؤلاء الأشخاص عندما يحاول شراءِ الطعام.
ولكن يظهر أنَّ لهذه الجملة مفهوماً واسعاً يشمل كافة أشكال الطهارات الظاهرية والباطنية (المعنوية)، وكلامهم وتوصيتهم هي توصية لكافة أنصار الحق، في أن لا يفكروا بطهارة غذائهم المعنوي وحسب، بل عليهم أيضاً الإِهتمام بطهارة طعام الأجسام كي يكون زكياً نقياً مِن جميع الأرجاس والشبهات.
وإِنَّ هذا الأمر ينبغي أن يلازمهم حتى في أصعب لحظات الحياة وأشدَّها عسراً، لأنَّ هذا المعنى هو تعبير عن أصل في وجود المؤمن.
اليوم يسعى معظم أفراد عالمنا للإِهتمام بجانب مِن هذا الأمر، وهو الجانب المتعلق بالحفاظ على الطعام مِن أشكال التلوث الظاهري، إِذ يضعون الطعام في أواني مغطاة بعيدة عنالأيدي الملوَّثة، وعن الأتربة والغبار.
وهذا العمل بحدَّ ذاته جيد جدّاً، إِلاَّ أنّ علينا أن لا نكتفي بهذا المقدار، بل ينبغي تزكية الطعام وتطهيره مِن لوثة الشبهة والحرام والرّبا والغش وأي شكل من أشكال التلوَّث المعنوي.
وفي الرّوايات الإِسلامية هُناك تأكيد كبير على الطعام الحلال النقي الزاكي وأثره في صفاء القلب واستجابة الدعاء.
ففي رواية نقرأ أنّه جاء رجلٌ إِلى رسول الله(ص) وسَألهُ قائلا: أحبُّ أن يُستجاب دُعائي.
فقال لهُ رسول الله(ص): "طهَّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام"(2).
ثانياً: التقية البنّاءة
نستفيد مِن تعبير الآيات أعلاه أنَّ أصحاب الكهف كانوا يُصرّون على أن لا يعرف أحد مكانهم حتى لا يجبرون على عبادة الأصنام، أو يقتلون بأفجع طريقة مِن خلال رميهم بالحجارة.
إِنّهم كانوا يرغبون في أن يبقوا غير معروفين حتى يستطيعوا بهذا الأُسلوب الإِحتفاظ بقوّتهم للصراع المقبل، أو على الأقل حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بإِيمانهم.
وهذا المعنى تعبير عن أحد أقسام "التقية البنّاءة" حيثُ أنّ حقيقة التقية هو أن يحفظ الإِنسان طاقته مِن الهدر بإِخفاء نفسه أو عقيدته.
يحفظ نفسهُ ويصونها حتى يستطيع - في مواقع الضرورة - الإِستمرار في جهاده المؤثِّر.
وطبيعي عندما تكون التقية واخفاء العقيدة سبباً لتصدُّع الأهداف والبرنامج الكبرى، فإِنّها تكون ممنوعة وينبغي الجهر بالحق والصدع به بالغاً ما بلغ الضرر.
ثالثاً: اللطف مركز القرآن
إِنَّ قوله تعالى: (ليتلطَّف) - كما هو مشهور - هي نقطة الفصل بين نصفي القرآن مِن حيث عدد الكلمات.
وهذا بنفسه يشير إِلى معنى لطيف للغاية، لأنّ الكلمة مُشتقّة مِن اللطف، واللطافة والتي تعني هُنا الدقة.
بمعنى أنَّ المرسل لتهيئة الطعام عليه أن يذهب ويرجع بحيث لا يُشعِر أحد بقصتهم.
بعض المفسّرين قالوا: إِنَّ الغرض مِن التلطُّف في شراء الطعام هو أن لا يتصَعَّب في التعامل، ويبتعد عن النزاع الضوضاء وينتخب أفضل البضاعة.
وهذا بذاته لطف أن تُشكِّل كلمة اللطف وسط القرآن ونقطة النصف بين كلماته الهادية.
﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا﴾ يطلعوا ﴿عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ﴾ يقتلوكم بالرجم ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ إن عدتم في ملتهم.