لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ تشير الآيات إلى مراحل أُخرى مِن يوم البعث والمعاد فتقول: (ووضع الكتاب). هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها: (فترى المجرمين مُشفقين ممّا فيه). وذلك عندما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم. في هذه الأثناء يصرخون ويقولون: (ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاَّ أحصاها). الجميع مدعوون للحساب عن كل شيء مهما دنا وَصَغُر، إِنَّهُ موقف موحش.. لقد نسينا بعض أعمالنا وكأن لم نفعلها، حتى كُنّا نظن بأنّنا لم نقم بعمل مُخالف، لكن نرى اليوم أنَّ مسؤوليتنا أصبحت ثقيلة جدّاً ومصيرنا مظلم. بالإِضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر: (ووجدوا ما عملوا حاضراً). وجدوا الحسنات والسيئات; الظلم والعدل، السلبيات والخيانات، كل هذه وغيرها وجدوها مُتجسِّدة أمامهم. في الواقع إِنّهم يُلاقون مصير أعمالهم: (ولا يظلم ربّك أحداً). الذي سيشملهم هُناك ، هو - لا مُحالة - ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا، لذلك فلا يلومون أحداً سوى أنفسهم. بحوث 1 - سر إِنهدام الجبال قلنا: إِنَّهُ في يوم الحشر والنشور سيتغير نظام العالم المادي، وقد وردت صياغات مُختلفة حول إِنهدام الجبال في القرآن الكريم، يمكن أن تقف عليها مِن خلال ما يلي: في الآيات التي نبحثها قرأنا تعبير (نسيِّر الجبال) وإِنَّ نفس هذه الصيغة التعبيرية يمكن ملاحظتها في الآية (20) مِن سورة النبأ. والآية (رقم 3) مِن سورة التكوير. ولكنّنا نقرأ في الآية (10) مِن سورة المرسلات قوله تعالى: (وإِذا الجبال نُسفت). في حين أنّنا نقرأ في الآية (14) مِن سورة الحاقة قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال فَدُكتا دكةً واحدة). وفي الآية (14) مِن سورة المزمَّل قوله تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلا). وفي الآية (رقم 5) مِن سورة الواقعة قوله تعالى: (وبست الجبال بساً فكانت هباءاً مُنبثاً). أخيراً نقرأ قوله تعالى في الآية (رقم 5) مِن سورة القارعة: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش). ومِن الواضح أن ليس هُناك تناف أو تضاد بين مجموع الآيات أعلاه، بل هي صيغ لمراحل مُختلفة لزوال جبال العالم ودمارها، هذه الجبال التي تعتبر أكثر أجزاء الأرض ثباتاً واستقراراً، حيث تبدأ العملية مِن نقطة حركة الجبال حتى نقطة تحوّلها إلى غبار وتُراب بحيث لا يرى في الفضاء سوى لونها! ترى ما هي أسباب هذه الحركة العظيمة المخفية؟ إِنّها غير معلومة لدينا، إِذ قد يكون السبب في ذلك هو الزوال المؤقت لظاهرة الجاذبية حيثُ تكون الحركة الدورانية للأرض سبباً في أن تتصادم الجبال فيما بينها ثمّ حركتها باتجاه الفضاء. وقد يكون السبب هو الإِنفجارات الذرية العظيمة في النّواة المركزية للأرض، وبسببها تحدث هذه الحركة العظيمة والموحشة. وعلى كل حال، فهذه الأُمور تدلَّ على أنَّ حالة البعث والنشور هي ثورة عظيمة في عالم المادة الميت، أيضاً في تجديد حياة الناس، حيث تكون كل هذه المظاهر هي بداية لعالم جديد يكون في مستوى أعلى وأفضل، إِذ بالرغم مِن أنَّ الروح والجسم هما اللذان يحكمان طبيعة ذلك العالم، إِلاَّ أنَّ جميع الأُمور ستكون أكمل وأوسع وأفضل. إِنَّ التعبير القرآني يتضمَّن هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنَّ عملية فناء عيون الماء ودمار البساتين هي أُمور سهلة في مقابل الحدث الأعظم الذي ستتلاشى عندهُ الجبال الراسيات، ويشمل الفناء كل الموجودات بما في ذلك أعظمها وأشدّها. 2 - صحيفة الأعمال يرى العلاّمة الطباطبائي في تفسير (الميزان) أنَّ في يوم القيامة ثلاثة كُتب، أو ثلاثة أنواع مِن صحف الأعمال: أوّلا: كتاب واحد يوضع لحساب أعمال جميع البشر، ويشير لذلك قوله تعالى في الآية التي نحنُ بصددها (ووضع الكتاب). الثّاني: كتاب يختص بكل أُمّة، إِذ لكل أمة كتاب قد كُتب فيه أعمالها كما يصرّح بذلك قول الحق سبحانه وتعالى في الآيتين 28، 29 مِن سورة الجاثية في قوله تعالى: (كل أمّة تُدعى إلى كتابها). الثّالث: كتاب لكل انسان بصورة مستقلة كما ورد في سورة الأسراء: الآية (13) (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً ...). وطبيعي أنَّهُ لا يوجد أي تعارض بين هذه الآيات، لأنَّهُ ليسَ ثمّة مانع مِن أن تُدَوَّن أعمال الإِنسان في عدّة كُتب، كما نشاهد نظير ذلك في برامج دنيا اليوم، إِذ مِن أجل التنظيم الدقيق لتشكيلات دولة ما، هناك نظام وحساب لكل قسم، ثمّ إِنَّ هذه الأقسام وفي ظل أقسام أكبر لها حسابٌ جديد. ولكن يجب الإِنتباه إلى أنَّ صحيفة أعمال الناس في يوم القيامة لا تشبه الدفتر والكتاب العادي في هذا العالم، فهي مجموعة ناطقة غير قابلة للنكران، وقد تكون الناتج الطبيعي لأعمال الإِنسان نفسه. في كل الأحوال، نرى أنَّ الآيات التي نبحثها تُظهر أنَّهُ علاوة على تدوين أعمال الناس في الكتب الخاصّة، فإِنَّ نفس الأعمال ستتجسَّد هُناك وستحضر: (ووجدوا ما عملوا حاضراً). فالأعمال التي تكون شكل طاقات مُتناثرة في هذا العالم وتكون محجوبة عن الأنظار وتبدو وكأنّها قد تلاشت وانتهت، هي في الحقيقة لم تنته (وقد أثبت العلم اليوم أنَّ أي مادي أو طاقة لا يُمكن أن تفنى، بل يتغير شكلها دائماً). ففي ذلك اليوم تتحوَّل هذه الطاقة الضائعة بإِذن الله إلى مادة، وتتجسَّد على شكل صور مناسبة، فالأعمال الحسنة على شكل صور لطيفة وجميلة، والأعمال السيئة على شكل صور قبيحة، وهذه الأعمال ستكون معنا، ولهذا السبب نرى أنَّ آخر جملة في الآيات أعلاه تقول: (ولا يظلم ربّك أحداً) لأنَّ الثواب والعقاب يترتبان على نفس أعمال الإِنسان. بعض المفسّرين اعتبر جملة (ووجدوا ما عملوا حاضراً) تأكيداً على قضية صحيفة الأعمال، وقالوا: إِنَّ معنى الجملة هو أنّنا سنجد جميع أعمالنا مُدَوَّنة في ذلك الكتاب(1). البعض الآخر اعتبر كلمة (جزاء) في هذه الآية مُقدَّرة وقالوا: إِنَّ المعنى هو أنّهم في ذلك اليوم "سيشاهدون جزاء أعمالهم جاهزاً"(2). إِلاَّ أنَّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة مع ظاهر الآيات. أمّا فيما يخص تجسُّد الأعمال فقد ذكرنا شرحاً مفصلا لذلك في نهاية الآية (30) مِن سورة آل عمران، وسنبحثه أكثر مرّة أُخرى أثناء الحديث عن الآيات التي تُناسب الموضوع. 3 - الإِيمان بالمعاد ودوره في تربية الناس حقّاً إِنَّ القرآن كتاب تربوي عجيب، فعندما يذكر للناس جانباً مِن مشاهد القيامة يقول: إِنَّ الجميع سيعرضون على محكمة الخالق العادلة على شكل صفوف مُنظمة، في حين أن تشابه عقائدهم وأعمالهم هو المعيار في الفرز بين صفوفهم! إنَّ أيديهم هناك فارغة مِن كل شيء، فقد تركوا كل مُتعلقات الدنيا، فهم في جمعهم فُرادى، وفي فرديتهم مجموعين، تُعرض صحائف أعمالهم. هناك يُذكر كل شيء، صغائر وكبائر الناس، والأكثر مِن ذلك أنَّ الأعمال والأفكار نفسها تحيا .. تتجسَّد .. تحيط الأعمال المتجسِّدة بأطراف كل شيء، فالناس مشغولون بأنفسهم بحيث أنَّ الأم تنسى ولدها، والابن ينسى الأب والأُم بشكل كامل. هذه المحكمة الإِلهية - والجزاء العظيم - التي تنتظر المسيئين، ستلقي بظلها الثقيل والموحش على جميع الناس، حيث تحبس الأنفاس في الصدور، وتتوقف العيون عن الحركة! تُرى ما مقدار ما يعكسهُ الإِيمان بهذا اليوم - بهذه المحكمة بكل ما تتخلله مِن مشاهد ومواقف - على قضية تربية الإِنسان ودفعه لمسك زمام شهواته!؟ في حديث عن الإِمام الصادق نقرأ وصفهُ(ع) لهذا اليوم: "إِذا كانَ يوم القيامة دُفع للإِنسان كتاب، ثمّ قيل له: اقرأ" قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: "إِنَّهُ يذكره، فما مِن لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعلهُ إِلاَّ ذكره، كأنَّهُ فعلهُ تلك الساعة، ولذلك قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاَّ أحصاها"(3). مِن هُنا يتّضح الدور المؤثر للإِيمان بالقيامة في تربية الإِنسان، وإِلاَّ فهل يمكن أن يجمع الإِنسان بين الذنب، وبين إِيمانه ويقينه بهذا اليوم!؟ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ جنسه أي صحائف الأعمال في الأيمان والشمائل أو هو كناية عن الحساب ﴿فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ﴾ خائفين ﴿مِمَّا فِيهِ﴾ من السيئات ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا﴾ هلكنا دعاء على أنفسهم بالهلاك ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ﴾ تعجبا من شأنه ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ مكتوبا كأنهم فعلوه تلك الساعة ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ لا يزيد عقاب مسيء ولا ينقص ثواب محسن.