لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وبالرغم مِن أنَّ طبع الإِنسان قائم على التغيُّر والتنوّع، إِلاَّ أنَّ سكان الجنّة لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبداً: (لا يبغون عنها حولا). ذلك لأنّهم يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك. بحوث 1 - مَن هم الأخسرون أعمالا؟ نلاحظ في حياتنا وحياة الآخرين، أنَّ الإِنسان عندما يقوم بعمل خاطىء ويعتقد أنَّهُ صحيح، فإِنَّ جهلهُ المركب هذا لا يدوم أكثر مِن لحظة أو موقف أو حتى سنة، أمّا أن يدوم على امتداد عمره فذلك هو سوء الحظ وهو الخسران المبين. لهذا وجدنا القرآن الكريم يسمي مثل هؤلاء الأشخاص بالأخسرين، لأنَّ الذي يرتكب الذنب وهو يعلم بذلك، فإِنَّهُ سيضع حداً لما هو فيه ويعوّض عن الذنب بالتوبة والعمل الصالح، أمّا أُولئك الذين يظنون أن ذنوبهم عبادة وأعمالهم السيئة أعمالا صالحة، وانحرافهم استقامة، فإِنَّ مثل هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن ذنوبهم، بل يستمرون فيما هُم فيه إِلى نقطة النهاية، فيكونون كما عبَّر عنهم القرآن: (بالأخسرين أعمالا). وفي الرّوايات والأحاديث الإِسلامية تفاسير مُتعدِّدة للأخسرين أعمالا، وإِنَّ كل واحد مِنها إِشارة إِلى أحد المصاديق الواضحة لهذا المفهوم الواسع مِن دون أن تحدَّده، ففي حديث "أصبغ بن نباتة" أنّه سأل الإِمام علي(ع) عن تفسير الآية، فقال الإِمام: "كَفَرَة أهل الكتاب، اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون أنّهم يحسبون صنعاً"(2). وفي حديث آخر عن الإِمام علي(ع) أيضاً، قوله بعد ذكر الجواب الآنف: "وما أهل النهر مِنهم ببعيد" يعني(ع) الخوارج(3). وفي حديث ثالث هنا إِشارة خاصّة إِلى الرهبان (الرجال والنساء الذين يتركون الدنيا) والمجاميع التي ابتدعت البدع مِن المسلمين(4). وهناك قسم مِن الرّوايات تفسِّر الآية بـ (الذين يُنكرون ولاية أمير المؤمنين الإِمام علي(ع))(5). أليسَ الرهبان الذي يعيشون كل عمرهم في زاوية مِن الزوايا (في الدير مثلا) ويعانون أنواع الحرمان، ويمتنعون عن الزواج والأكل والملابس الجيدة، ويفضلون سُكنى الدير على كل شيء وهم يظنون أنَّ هذه الحياة تقرّبهم إِلى الله، أليسَ هؤلاء مصداقاً واضحاً للاخسرين أعمالا؟! هل هُناك مذهب أو دين إِلهي يمكن أن يدعو إِلى خلاف قانون العقل والفطرة، أي يدعو الإِنسان الإِجتماعي إِلى الإِبتعاد عن الحياة، ويعتبر هذا العمل مصدراً للتقرب إِلى الله تعالى؟! إِنَّ الذين أوجدوا البدع في دين الله من قبيل التثليث في مقابل توحيد الله الواحد الأحد، واعتبروا المسيح بن مريم ابن الله، وأدخلوا خرافات أُخرى في دين الله، ظناً مِنهم بأنّهم يُحسنون صُنعاً، أليسَ هؤلاء وأمثالهم هم أخسر الناس؟! ألا يُعتبر خوارج "النهروان" مِن أخسر الناس، وهم المجموعة الجاهلة التي ارتكبت أعظم الذنوب (مثل قتل الإِمام علي(ع)) ظناً مِنهم أنَّ هذا الأمر سيقربهم مِن الله، بل واعتبروا أنَّ الجنّة مخصوصة لهم؟! الخلاصة: إِنَّ الآية لها مفهوم واسع، إِذ تشمل أقواماً كثيرين في السابق والحاضر والمستقبل. والآن نصل إِلى هذا السؤال: ما هو مصدر هذا الإِنحراف الخطير؟ إِنَّ التعصب القوي والغرور والتكبر وحب الذات، هي مِن أهم العوامل التي تقود إِلى مثل هذه التصورات الخاطئة. وفي بعض الأحيان يكون التملق، أو الإِنطواء على النفس لفترة معينة سبباً لظهور هذه الحالة، حيث يتصوّر الإِنسان أنَّ كل أعماله الخاطئة المنحرفة هي أعمال جميلة، بحيث يشعر بالفخر والغرور والمباهاة بدلا مِن إِحساس الخجل والشعور بالعار بسبب أعماله القبيحة. يقول القرآن في مكان آخر واصفاً هذه الحالة: (أفمن زُين لهُ سوء عمله فرآه حسناً)(6) وفي آيات أُخرى، نقرأ أنَّ الشيطان هو الذي يُزيِّن للإِنسان سيئاته حسنات، ويمنيهم بالغلبة والنصر، كما في قوله تعالى: (وإِذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم وقالَ لا غالب لكم اليوم مِن الناس وإِنّي جار لكم)(7). ويقول القرآن بعد قصّة برج فرعون المعروف: (وكذلك زين لفرعون سوء عمله). والآية تعليق على عمل فرعون عندما طلب مِن هامان أن يبني لهُ برجاً لِيطّلع بزعمه إِلى إِله موسى كما في الآيتين (36 - 37) مِن سورة غافر. 2 - ماذا يعني لقاء الله؟ بالرغم مِن أنَّ بعض أشباه العلماء يستفيدون مِن أمثال هذه الآيات إِمكانية رؤية الخالق جلَّ وعلا في العالم الآخر، ويفسّرون لقاء الله باللقاء الحسي، إِلاَّ أنَّهُ مِن المعلوم بداهة أنَّ اللقاء الحسي يقتضي تجسيم الخالق جلَّ وعلا، والتجسيم يقتضي التحديد والحاجة، والمحدود المحتاج يكون قابلا للفناء، والكل يعرف ويؤمن بأنَّ هذه الصفات لا تنطبق على الله تعالى. لذا فإِنَّ القصد مِن اللقاء أو الرؤيا في الآيات القرآنية ليسَ الرؤية الحسية، بل الرؤية الباطنية المعنوية. يعني أنَّ الإِنسان في يوم القيامة يُشاهد آثار الخالق أكثر وأفضل مِن أي زمان، لذا فإِنَّهُ ينظر إِليه بوضوح، بعين القلب الواعي البصير. لهذا السبب - ووفقاً للآيات القرآنية - فإِنَّهُ حتى أشد الناس إِنكاراً للخالق وأكثرهم عناداً، سوف يقر يوم القيامة بوجود الخالق، وأنّه لا مجال لانكاره(8). بعض المفسّرين اعتبر هذا المفهوم (لقاء الله) مشاهدة النعم والثواب، وأيضاً العذاب والعقاب الإِلهي وفي ذلك تكون كلمة الثواب والعقاب مقدّرة في الآية. وبالرغم من أن هذان التّفسيران لا تعارض بينهما، إِلاَّ أنَّ التّفسير الأوّل يبدو أظهر وأوضح. 3 - وزن الأعمال ليسَ بنا حاجة إِلى أن نفسّر قضية وزن الأعمال عن طريق تجسيم الأعمال والقول بأنَّ عمل الإِنسان سيتحوَّل هناك إِلى جسم وله وزن، ذلك لأنَّ الوزن لهُ معنى واسع يشمل أية مقايسة، فمثلا نقول للأشخاص عديمي الشخصية أنّهم أشخاص لا وزن لهم، أو أنّهم أشخاص خفيفون، ونعني بذلك ضعف شخصيتهم وليسَ القلّة في وزنهم الجسمي. والجميل هنا أنَّ الاية تصف الأخسرين أعمالا بأنّنا لم نضع لهم يوم القيامة ميزاناً للقياس. ولكن هل تتعارض هذه الآية مع قوله تعالى في الآية (رقم 8) مِن سورة الأعراف: (والوزن يومئذ الحق)؟ طبعاً لا، لأنَّ الوزن يخصّ الأشخاص الذين قاموا بأعمال تستحق الوزن، أمّا الشخص الذي لا يساوي وجوده وأعماله وأفكاره حتى جُناح بعوضة، فهل هو بحاجة إِلى الوزن؟! لهذا السبب نقرأ في رواية معروفة عن النّبي قوله(ص): "إِنَّهُ ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة"(9). لماذا؟ لأنَّ أعمال مثل هؤلاء وأفكارهم وشخصيتهم كانت في الحياة الدنيا عديمة الأهمية والفائدة. ومِن هنا يتّضح أنَّ الناس هناك على عدَّة أنواع هي: 1 - مجموعة تكون مُثقلة بالحسنات والأعمال الصالحة بحيث لا تحتاج إِلى الوزن والحساب في أعمالها، بل تدخل الجنّة بدون حساب. 2 - مجموعة ثانية من الذين حبطت أعمالهم، أو ليسَ لهم أي عمل الصالح، وهذه لا تحتاج إِلى وزن أيضاً، بل تدخل النّار بدون حساب. 3 - أمّا المجموعة الثّالثة، فهي التي تملك السيئات والحسنات، وهذه يشملها الوزن والحساب. وقد يكون أكثر الناس مِن هذه الفئة. 4 - تفسير قوله تعالى: (لا يبغون عنها حولا) (حول) على وزن (علل) لها معنى مصدري وتعني التحوّل ونقل المكان، وكما قلنا في تفسير الآيات، فإِنَّ الفردوس بستان الجنة توجد فيه أفضل النعم والمواهب الإِلهية، ولهذا السبب فإِنّها تعتبر أفضل مناطق ذلك العالم، حيث أنَّ الساكنين فيها لا يتمنون أبداً الإِنتقال مِنها إِلى مكان آخر. وقد يقول البعض: إِنَّ الحياة قد تكون هناك رتيبة وراكدة، وهذا بحد ذاته نقص وعيبٌ كبيرٌ فيها؟! في الجواب نقول: ليس ثمة مانع مِن أن يكون التحوُّل والتكامل في نفس المكان، إِذا توافرت أسباب التكامل واجتمعت هناك، وهي - قطعاً - متوافرة. وفي ظل الأعمال التي قام بها الإِنسان في هذه الدنيا، فإِنَّ الإِنسان - مِن خلال المواهب الإِلهية هناك - سوف يستمر في طريق تكامله بشكل دائم ومستمر. وسنقوم إِن شاء الله بشرح أفضل لتكامل الإِنسان حتى في الجنة، وذلك في نهاية الآيات التي تُناسب الموضوع. 5 - الفردوس لمن؟ قلنا: إِنَّ "الفردوس"(10) أفضل مناطق الجنة، ولا يسكنهُ سوى المؤمنين وذوي الأعمال الصالحة، إِذاً سيكون السؤال: مَن يسكن الأقسام الأُخرى في الجنة، إِذا كانت الجنة مكاناً للمؤمنين وحسب وممنوعة على غيرهم؟ في الجواب نقول: إِنَّ الفردوس لا تشمل كل مؤمن ذي عمل الصالح، بل هي لمن بلغ درجة عالية مِن الإِيمان والعمل الصالح، وهذه المرتبة هي المعيار للوصول إِلى الفردوس بالرغم مِن أنَّ ظاهر الآية مطلق، إِلاَّ أنَّ الإِنتباه إِلى معنى الفردوس يقيّد الإِطلاق المذكور. لذلك عندما تتحدث سورة المؤمنون عن صفات ورثة الفردوس فإِنّها تبيّن الحد الأعلى لصفات المؤمنين والذي لا يكون موجوداً عند جميع الأفراد. وهذا دليل آخر على أنَّ سكنة الفردوس يملكون صفات ممتازة بالإِضافة إِلى شَرطي الإِيمان والعمل الصالح. لذلك رأينا رسول الله(ص) في حديث سابق، يعلمنا بأنّنا عندما نطلب الجنّة، فعلينا أن ندعو لنيل الفردوس بالخصوص، لأنّها أكمل وأفضل منازل الجنّة. وهذه إِشارة إِلى ضرورة أن تنصرف همة المؤمن - في كل الأُمور - إِلى أعلى حد، وحتى في الجنة عليه أن لا يقنع بمراحلها الدنيا بالرغم ممّا في هذه المراحل مِن نعم ومواهب. وطبيعي أنَّ الذي يطلب هذه المنزلة مِن الله لا بدَّ وأن يكون قد أعدَّ نفسهُ لها، وعليه أن يبذل كل سعيه وجهده لكسب أفضل الصفات وأرضى الأعمال. ومن ذلك يعلم أن من يقول بأن المهم هو أن أدخل الجنة حتى في أدنى درجة منها هو شخص يفتقد للهمة العالية للمؤمنين الحقيقيين. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ﴾ يطالبون ﴿عَنْهَا حِوَلًا﴾ تحويلا إلى غيرها إذ لا أطيب منها.